صفحة جزء
وبيان ذلك من وجوه:

أحدها: أن يقال: البرهان الذي ينال بالنظر فيه العلم لا بد أن ينتهي إلى مقدمات ضرورية فطرية، فإن كل علم ليس بضروري لا بد أن ينتهي إلى علم ضروري، إذ المقدمات النظرية لو أثبتت بمقدمات نظرية دائما لزم الدور القبلي، أو التسلسل في المؤثرات في محل له ابتداء. وكلاهما باطل بالضرورة واتفاق العقلاء من وجوه. فإن العلم النظري الكسبي هو ما يحصل بالنظر في مقدمات معلومة بدون النظر، إذ لو كانت تلك المقدمات أيضا نظرية لتوقف على غيرها، فيلزم تسلسل العلوم النظرية في الإنسان، والإنسان حادث كائن بعد أن لم يكن، والعلم الحاصل في قلبه حادث، فلو لم يحصل في قلبه علم إلا بعد علم قبله، للزم أن لا يحصل في قلبه علم ابتداء، فلا بد من علوم بديهية أولية يبتدؤها الله في قلبه، وغاية البرهان أن ينتهي إليها. [ ص: 310 ]

ثم تلك العلوم الضرورية قد يعرض فيها شبهات ووساوس كالشبهات السوفسطائية، مثل الشبهات التي يوردونها على العلوم الحسية والبديهية، كالشبهات التي أوردها الرازي في أول "محصله"، وقد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع.

والشبهات القادحة في تلك العلوم لا يمكن الجواب عنها بالبرهان، لأن غاية البرهان أن ينتهي إليها، فإذا وقع الشك فيها انقطع طريق النظر والبحث. ولهذا كان من أنكر العلوم الحسية والضرورية لم يناظر، بل إذا كان جاحدا معاندا عوقب حتى يعترف بالحق، وإن كان غالطا إما لفساد عرض لحسه أو عقله لعجزه عن فهم تلك العلوم، وإما لنحو ذلك، فإنه يعالج بما يوجب حصول شروط العلم له وانتفاء موانعه، فإن عجز عن ذلك، لفساد في طبيعته عولج بالأدوية الطبيعية، أو بالدعاء والرقى والتوجه ونحو ذلك، وإلا ترك.

ولهذا اتفق العقلاء على أن كل شبهة تعرض لا يمكن إزالتها بالبرهان والنظر والاستدلال، وإنما يخاطب بالبرهان والنظر والاستدلال من كانت عنده مقدمات علمية، وكان ممن يمكنه أن ينظر فيها نظرا يفيده العلم بغيرها، فمن لم يكن عنده مقدمات علمية أو لم يكن قادرا على النظر، لم تمكن مخاطبته بالنظر والاستدلال. [ ص: 311 ]

وإذا تبين هذا فالوسوسة والشبهة القادحة في العلوم الضرورية لا تزال بالبرهان، بل متى فكر العبد ونظر ازداد ورودها على قلبه، وقد يغلبه الوسواس حتى يعجز عن دفعه عن نفسه، كما يعجز عن حل الشبهة السوفسطائية.

وهذا يزول بالاستعاذة بالله، فإن الله هو الذي يعيذ العبد ويجيره من الشبهات المضلة والشهوات المغوية، ولهذا أمر العبد أن يستهدي ربه في كل صلاة فيقول اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [سورة الفاتحة: 6 – 7].

وفي الحديث الإلهي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم».

وقال تعالى: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [سورة النحل: 97].

وقال تعالى: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم [سورة الأعراف: 200] [ ص: 312 ]

وقال تعالى: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [سورة فصلت: 36].

وفي الصحيحين عن سليمان بن صرد قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، فأمر الله تعالى العبد أن يستعيذ من الشيطان عند القراءة وعند الغضب، ليصرف عنه شره عند وجود سبب الخير، وهو القراءة، ليصرف عنه ما يمنع الخير، وعند وجود سبب الشر، ليمنع ذلك السبب الذي يحدثه عند ذلك.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه». [ ص: 313 ]

وكانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ومقلب القلوب».

وكان كثيرا ما يقول: «والذي نفس محمد بيده».

وفي الحديث: «للقلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمع غليانا» .

وشواهد هذا الأصل كثيرة مع ما يعرفه كل أحد من حال نفسه من كثرة تقلب قلبه من الخواطر، التي هي من جنس الاعتقادات ومن جنس الإرادات، وفيها المحمود والمذموم، والله هو القادر على صرف ذلك عنه، فالاستعاذة بالله طريق مفضية إلى المقصود الذي لا يحصل بالنظر والاستدلال.

التالي السابق


الخدمات العلمية