صفحة جزء
فصل

ولما كانت طرق معرفة الله والإقرار به كثيرة متنوعة صار كل طائفة من النظار تسلك طريقا إلى إثبات معرفته، ويظن من يظن أنه لا طريق إلا تلك. وهذا غلط محض، وهو قول بلا علم.

فإنه من أين للإنسان أنه لا يمكن المعرفة إلا بهذا الطريق؟ فإن هذا نفي عام لا يعلم بالضرورة، فلا بد من دليل يدل عليه، وليس مع النافي دليل يدل على هذا النفي، بل الموجود يدل على أن للمعرفة طرقا أخرى، وأن غالب العارفين بالله من الأنبياء وغير الأنبياء، بل من عموم الخلق، عرفوه بدون تلك الطريق المعينة.

وقد نبهنا في هذا الكتاب على ما نبهنا عليه من طرق أهل النظر وتنوعها على ما يأتي، وأن الطرق تتنوع تارة بتنوع أصل الدليل، وتارة بزيادة مقدمات فيه يستغني عنها آخرون، فهذا يستدل بالإمكان، وهذا بالحدوث، وهذا بالآيات، وهذا يستدل بحدوث الذوات، وهذا بحدوث الصفات، وهذا بحدوث المعين كالإنسان، وهذا [ ص: 334 ] بحدوثه وحدوث غيره، وآخرون غلطوا فظنوا أنه لا بد من العلم بحدوث كل موصوف تقوم به الصفات، وقد يعبرون عنه بلفظ الجسم، والجوهر، والمحدود، والمركب .. وغير ذلك من العبارات، وآخرون يستدلون بحدوث ما قام به الحوادث، ويقولون: كل ما قامت به الحوادث فهو محدث، وليس كل ما قامت به الصفات محدثا.

والفلاسفة لم يسلكوا هذه الطريق لاعتقادهم أن من الأجسام ما هو قديم تحله الحوادث والصفات، فكونه جسما ومتميزا وقديما وتحله الصفات والحوادث ليس هو عندهم مستلزما لكونه محدثا، بل وليس ذلك مستلزما عند أرسطو كونه ممكنا يقبل الوجود والعدم.

وكذلك لم يسلكها كثير من أهل الكلام، كالهشامية والكرامية وغيرهم، بل ولا سلكها سلف الأمة وأئمتها كما قد بسط في موضعه.

ولم يسلكها متأخرو أهل الكلام الذين ركبوا طريقا من قول الفلاسفة وقول أسلافهم المتكلمين كالرازي والآمدي والطوسي ونحوهم، بل سلكوا طريقة ابن سينا التي ذكرها في إثبات واجب الوجود.

التالي السابق


الخدمات العلمية