صفحة جزء
وأما قول القائل: كل ما له صفة وقدر فيقبل خلاف ذلك، فلا يعلم اطراده، فأين القياس الذي لا يعلم انتقاضه من القياس الذي لا يعلم اطراده؟

والناس متفقون على أنهم لم يروا موجودا إلا له صفة وقدر، وليسوا متفقين على أن كل ما رأوه يمكن وجوده على خلاف صفاته [ ص: 360 ] وقدره مع بقاء حقيقته التي هو بها هو، ولكن مع استحالة حقيقته فاستحالة قدره وصفاته أولى.

ثم إن ما نشاهده من السماوات إنما نعلم جواز كونها على خلاف هذه الصفات بأدلة منفصلة، لا نعلم ذلك ضرورة ولا حسا. ولهذا نازع في ذلك كثير من العقلاء الذين لا يجمعهم مذهب معين تلقاه بعضهم عن بعض. ولو كان هذا الجواز معلوما بالضرورة لم ينازع فيه طوائف العقلاء الذين لم يتواطأوا على قول، فإن هؤلاء لا يتفقون على جحد الضروريات.

ثم يقال: هذا بعينه معارض بالحقائق في نفسها وصفاتها اللازمة لها، فإنه يمكن أن يقال: كل موجود له حقيقة تخصه يمتاز بها عن غيره، فاختصاص ذلك الموجود بتلك الحقيقة دون غيرها من الحقائق يفتقر إلى مخصص.

ويقال أيضا: كل موجود له صفات لازمة تخصه، فاختصاصه بتلك الصفات دون غيرها يفتقر إلى مخصص.

ومن المعلوم أنه قد علم بضرورة العقل واتفاق العقلاء أنه لا بد من وجود واجب بنفسه قديم، وموجود ممكن محدث، فإنا نشاهد حدوث الحوادث، والحادث ممكن، وإلا لما وجد، وليس بواجب بنفسه، وإلا لم [ ص: 361 ] يعدم، ويعلم بالضرورة أن طبيعة المحدث لا تكون إلا بقديم، وطبيعة الممكن لا تكون إلا بواجب، كما قد بسط في غير هذا الموضع.

فإذا كانت الموجودات منقسمة إلى قديم ومحدث، وواجب وممكن، فمن المعلوم أنهما يشتركان في مسمى الوجود والماهية، والذات والحقيقة، وغير ذلك، ويختص الواجب بما لا يشركه فيه غيره.

بل من المعلوم بالضرورة أن الواجب له حقيقة تخصه لا يشركه فيها غيره، فإن كان كل مختص يفتقر إلى مخصص مباين له، افتقرت حقيقة الواجب بنفسه إلى مخصص مباين له، فلا يكون في الموجودات قديم ولا واجب، فيلزم حدوث الحوادث بلا محدث، ووجود الممكنات بلا واجب.

وهذا كما أنه معلوم الفساد بالضرورة، فلم يذهب إليه أحد من العقلاء، بل غاية الدهري المعطل الكافر أن يقول: العالم قديم واجب الوجود بنفسه، لا يقول: إنه ممكن محدث ليس له مبدع، وإذا قال الدهري: إن العالم واجب الوجود بنفسه، لزمه أن الواجب بنفسه مختص عن غيره بصفات لا يشركه فيها غيره،كالحوادث من الحيوان والنبات والمعدن.

التالي السابق


الخدمات العلمية