صفحة جزء
قلت: ومعلوم أن هذا تناقض، فإن نفي الاختصاص بخاصة من الخواص، ودعوى أنه وجود مطلق لا يختص بوجه من الوجوه يمنع أن يختص بعلم أو قدرة أو مشيئة ونحو ذلك من الصفات، فإن العالم مختص بعلمه متميز به عن الجاهل، والقادر مختص بقدرته متميز بها عن العاجز، والمختار مختص بالاختيار متميز به عن المستكره، فإن أثبت شيئا من صفات الكمال فقد أثبت اختصاصه بذلك، وإن نفى جميع الصفات ولم يثبت إلا وجودا مطلقا تناقض كلامه.

وقيل له: المطلق لا يوجد إلا في الذهن لا في الخارج، فلا يتصور أن يكون في الخارج شيء مطلق، لا حيوان ولا إنسان مطلق، ولا جسم مطلق، ولا موجود مطلق، بل كل موجود فله حقيقة يختص بها لا يشركه فيها غيره.

وقيل له: هذا الوجود المطلق أهو وجود المخلوقات أم غيره؟ فإن قال: هو هو، بطل إثبات الخالق، وإن قال: هو غيره قيل له: [ ص: 441 ] فوجوده مثل وجود المخلوقات أو ليس مثله، فإن كان الأول لزم أن يكون الخالق مثل المخلوق، والمثلان يجوز ويجب ويمتنع على أحدهما ما يجوز ويجب ويمتنع على الآخر، فيلزم أن يكون الشيء الواحد واجبا غير واجب، محدثا غير محدث، وهو جمع بين النقيضين.

وإن قال: وجوده مخالف لوجود المخلوقات فقد أثبت له وجودا يختص به، لا يشركه فيه غيره، فلا يماثله غيره، وهذا وجود مخصوص مقيد، لا وجود مطلق، وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا الكلام في أن كل مختص بأمر: هل يفتقر إلى مخصص منفصل عنه؟ لأن الكلام كان في المسلك الثاني في حدوث الأجسام، الذي بين فساده الآمدي والأرموي وغيرهما، فإنه مبني على مقدمتين، إحداهما أنها مفتقرة إلى ما يخصصها بصفاتها، والثانية أن ما كان كذلك فهو محدث. وقد بينوا فساد المقدمة الثانية كما تقدم.

[ ص: 442 ] وأما الأولى فقررت بوجهين.

أحدهما: أن المختص بمقدار لا بد له من مخصص، وقد تبين فساده أيضا.

الثاني: أن جواهر العالم إما أن تكون مجتمعة أو مفترقة، أو مجتمعة ومفترقة معا، أو لا مجتمعة ولا مفترقة، أو البعض مجتمعا والبعض مفترقا، وخلوها عنهما، وأيضا الجمع بينهما ممتنع، وأما بقية الأقسام فهي ممكنة، ومهما قدر أمكن تقدير خلافه فيكون جائزا، والجائز يفتقر إلى مخصص.

وهذا أضعف لوجهين:

أحدهما: أنه مبني على أن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة، وأن كل جسم يقبل الاجتماع والافتراق، وأكثر عقلاء الناس على خلاف ذلك، فإن للناس في هذا المقام أقوالا: أحدها: قول من يقول: إنها مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة، كما هو قول أكثر المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وموافقيهم.

والثاني: قول من يقول: إنها مركبة من جواهر لا نهاية لها كما هو قول النظام ومتبعيه.

والثالث: قول من يقول: إنها مركبة من المادة والصورة، وإنها تقبل الانقسام إلى غير نهاية، كما هو قول ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة.

[ ص: 443 ] والرابع: قول من يقول: إنها ليست مركبة من هذا ولا هذا، لكن تقبل الانقسام إلى جوهر لا يتجزأ، كما هو قول الشهرستاني وغيره.

والخامس: قول من يقول: إنها ليست مركبة لا من هذا ولا هذا، ولا تقبل الانقسام إلى جزء لا يتجزأ ولا إلى غير غاية، لكن كل جزء موجود فإنه يقبل الانقسام العقلي ولا يقبل الانقسام الفعلي، ولكنه يستحيل إذا تصغر، كما تفسد وتستحيل أجزاء المادة إذا صغرت فتصير هواء، فلا يكون في الأجزاء ما لا يتميز يمينه عن شماله، ولا يكون فيها ما يقبل الانقسام إلى غير غاية.

وهؤلاء تخلصوا من هذا المحذور وهذا المحذور، فإن مثبتة الجزء الذي لا ينقسم ألزمهم الناس بأنه لا بد أن يتميز أحد جانبيه عن الآخر، وما كان كذلك فهو يقبل الانقسام المتنازع فيه.

وألزموهم أنه إذا وضع بين جوهرين فإن لاقى هذا بعين ما لاقى به هذا امتنع كونه بينهما، وإن لاقى هذا بغير ما لاقى به هذا لزم انقسامه، وألزموهم من هذا الجنس إلزامات لا محيد لهم عنها.

ومن نفاه وقال بأنه يمكن انقسام الأجسام إلى غير نهاية ألزمهم الناس أن يكون الجسم الصغير كالكبير، وأن يكون ما لا يتناهى محصورا بين حاصرين.

[ ص: 444 ] ثم إما أن يقول: هي غير متناهية مع وجودها، كما يقوله النظام، والتزم على ذلك أن الظافر لا يحاذي ما تحته من الأجزاء لئلا يقع ما لا يتناهى تحت ما يتناهى، وصار الناس يقولون: عجائب الكلام طفرة النظام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري، ولهم في ذلك من الكلام ما يطول وصفه.

أو يقول: إن الانقسام إلى غير غاية ممكن فيها كما يقوله المتفلسفة كابن سينا وأمثاله.

ولما كان كل من القولين معلوم الفساد بالضرورة: قول من أثبت ما لا يتميز بعضه عن بعض، ومن أثبت ما ينقسم إلى غير نهاية، توقف من توقف من أفاضل النظار فيه، فتوقف فيه أبو الحسين البصري، وأبو المعالي الجويني في بعض كتبه، وأبو عبد الله الرازي في نهايته.

فهؤلاء الذين لم يثبتوا إمكان الانقسام إلى غير غاية، ولا أثبتوا ما لا يقبل امتياز بعضه عن بعض، خلصوا من هذا وهذا، وقالوا: إنه إذا صغر استحال إلى غيره، مع امتياز بعضه عن بعض لو بقي موجودا.

وبالجملة نفي هذا وهذا قول طوائف كثيرة من أهل النظر من الكلابية والكرامية، بل والهاشمية والنجارية والضرارية وغيرهم.

وما زال السلف والأئمة وغيرهم من عقلاء الناس ينكرون على هؤلاء ما تكلموا به في الجوهر والجسم، ويعدون هذا من الكلام الباطل المذموم.

[ ص: 445 ] والمقصود هنا أن هؤلاء الذين يقولون: إن جواهر العالم إما أن تكون مجتمعة أو مفترقة إلى آخرها، قولهم مبني على هذا الأصل، والتزموا على ذلك أن جميع ما يحدث من الحيوان والنبات والمعدن، وما يفسد من ذلك إنما هو لاجتماع الجواهر وافتراقها، فالحادث صفات الجواهر، لا أن عينا من الأعيان يحدث، وأنكروا استحالة الأجسام بعضها إلى بعض وقالوا: إن أجزاء المني باقية في الإنسان، وكذلك أجزاء النواة في الشجرة، ولكن زادت أجزاء بما انضم إليها من أجزاء الغذاء، كأجزاء الماء والهواء، وأن تلك الأجزاء أيضا باقية لم تستحل ولم تعدم، بل تجتمع تارة وتفترق أخرى.

وجماهير العقلاء على مخالفة هؤلاء، وقائلون باستحالة الأجسام بعضها إلى بعض، كما أطبق على ذلك علماء الشريعة وعلماء الطبيعة وغيرهم من أصناف الناس.

ولهذا يقولون: النجاسة هل تطهر بالاستحالة أم لا تطهر؟ فإذا صارت الميتة والدم ولحم الخنزير رمادا أو ترابا أو ملحا ونحو ذلك، ففي طهارة ذلك قولان مشهوران للعلماء، والقول بطهارته قول أكثر الفقهاء، فإنه قول أصحاب أبي حنيفة وأهل الظاهر، وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد بن حنبل، واتفقوا على أن الخمر إذا استحالت وانقلبت بغير قصد الإنسان أنها تطهر.

والأطباء مع سائر الناس يعلمون أن الماء يستحيل هواء، والهواء يستحيل ماء، والنار تستحيل هواء، والهواء يستحيل ماء، كما [ ص: 446 ] هو مبسوط في غير هذا الموضع، إذ المقصود هنا التنبيه على أصول هذه الحجة.

التالي السابق


الخدمات العلمية