صفحة جزء
وأما الأسئلة التي ذكر أبو الحسن الآمدي أنهم أوردوها على هذه الحجة فهي ضعيفة كما ذكر ضعفها ، ويمكن الجواب عنها ما ذكر أيضا .

أما قول القائل : القاصد إلى الحدوث في محل يستدعي كون المحل في جهة . فإن أراد به ما يقصد حدوثه في محل مباين له ، فالكرامية [ ص: 52 ] تقول بموجب ذلك . وليس هذا محل الأنواع هنا . ثم القائل لهذا إما أن يجوز كون الأمور المباينة للرب في جهة منه ، أو لا يجوز ذلك .

فإن جوزه فقال بموجبه مع بقاء محل النزاع ، وإن لم يجوزه كان ذلك دليلا على فساد قوله في مسألة الجهة ، وحينئذ فيكون ذلك أقوى لقول الكرامية ومن وافقهم .

وإن أرادا أن ما يقصد حدوثه في محل هو ذاته ، يوجب أن تكون ذاته في جهة من ذاته .

فيقال له : هل يعقل كون الشيء في جهة من نفسه أم لا؟ فإن عقل ذلك قالوا بموجب التلازم ، وإن لم يعقل ذلك منعوا التلازم .

يبين ذلك أن الإنسان يحدث حوادث في نفسه بقصده وإرادته . وهذا السؤال يرد عليها ، فإن عقل كون نفسه في جهة من نفسه ، أمكن للمنازعين أن يقولوا بموجب ذلك في كل شيء ، وإلا فلا .

وأيضا فيقال : قصد الشيء إما أن يستلزم كونه بجهة من المقاصد ، وإما أن لا يستلزم ذلك . فإن استلزم ذلك . لزم كون جميع الأجسام بجهة من الرب ، فإنه إذا أحدث فيها الأعراض الحادثة كان قاصدا لها على ما ذكروه ، فيلزم أن يكون بجهة منه على هذا التقدير . وحينئذ فيكون هو أيضا بجهة منها ، لامتناع كون أحد الشيئين بجهة من الآخر ، من غير عكس ، كما ذكروه ، وإذا كان كذلك لزم أن يكون الباري في جهة . [ ص: 53 ]

وإذا كان كذلك بطلت حجتهم ، لأن غايتها أن قصده للحوادث في ذاته يستلزم كون ذاته في جهة ، بطل نفي هذا اللازم .

وإما أن يقال : قصد الشيء لا يستلزم كونه بجهة من القاصد ، وحينئذ فبطلت هذه الحجة ، فثبت بطلانها على التقديرين .

وإيضاح فسادها أنها مبنية على مقدمتين ، وصحة إحداهما تستلزم بطلان الأخرى ، وبطلانها يتضمن بطلان إحدى المقدمتين ، فثبت بطلان إحداهما على كل تقدير ، وإذا بطلت إحدى المقدمتين بطلت الحجة ، فإن إحدى المقدمتين أن القاصد لا يقصد إلا ما هو في جهة . والثانية أن كون الباري في الجهة محال . فإن كانت المقدمة الأولى صحيحة لزم أن يكون في الجهة ، لأنه يقصد حدوث حوادث قطعا ، فبطلت الثانية . وإن كانت الأولى باطلة ، بطلت الحجة أيضا لبطلان إحدى مقدمتيها .

وكما أن فساد هذه الحجة ظاهر على أصول أهل الملل وغيرهم ممن يقول بحدوث العالم ، فبطلانها على رأي الفلاسفة الدهرية أظهر . فإن هؤلاء لا ينكرون حدوث الحوادث ، فإن قالوا : إنها حادثة عن علة أزلية موجبة بنفسها ، كما يقوله ابن سينا وأمثاله ، فهؤلاء يقولون بأن الحوادث تحدث عنه بوسائط . [ ص: 54 ]

وحينئذ فيقال : إما أن ذلك يستلزم كونها منه في جهة أو لا يستلزم؟ وتبطل الحجة على التقديرين كما تقدم .

وإن قالوا : بل العالم واجب الوجود بنفسه ، فقد قالوا بحدوث الحوادث عن القديم الواجب بنفسه وقيامها به ، فإن الحوادث قائمة بذات الأفلاك ، وحينئذ فكل ما يحتج به على نقيض ذلك فهو باطل ، فإن صحة أحد النقيضين تستلزم بطلان الآخر ، وبطلان اللازم يقتضي بطلان الملزوم ، والدليل مستلزم للمدلول ، والمدلول لازم للدليل . فإذا بطل اللازم الذي هو المدلول ، كانت أدلته المستلزمة له كلها باطلة .

وهذا الجواب خير من جواب الآمدي بقوله : "القصد إلى ما هو في جهة ممن ليس في الجهة محال" فإن جميع نفاة الجهة من أهل الكلام يقولون إن الرب تعالى يقصد إلى ما هو في جهة من المخلوقات ، والقصد منه . وليس هو في جهة عندهم .

بل يقال جوابا قاطعا : القصد في الجهة ممن ليس في الجهة ، إن كان ممكنا بطلت المقدمة الأولى من الاعتراض ، وإن كان ممتنعا بطلت المقدمة الثانية . [ ص: 55 ]

وأما الاعتراض الثاني ، وهو قولهم : لجاز قيام كل حادث به ، فظاهر الفساد . فإنا إذا جوزنا قيام صفة به، لم يلزم قيام كل صفة به، فإذا جوزنا أن تقوم به صفات الكمال: كالحياة ، والعلم ، والقدرة ، والسمع ، والبصر ، والكلام، لم يلزم أن تقوم صفات النقص به ، كالجهل المركب ، والمرض ، والسنة ، والنوم ، وغير ذلك من النقائص الوجودية . وإذا جوزنا أن يقوم به كلام لم نجوز قيام كل كلام به، وإذا جاز إرادة به لم يجز قيام إرادة كل شيء به ، وإنما يقوم به ما يليق بجلاله ، وما يناسب كبرياءه، إذ هو موصوف بصفات الكمال ، ولا يوصف بنقائضها بحال .

وذلك لأن كونه سبحانه قابلا لأن تقوم به الصفات أو الحوادث ، لم يكن لمجرد كون ذلك صفة أو حادثا ، فيلزم طرد ذلك في كل صفة وحادث ، كما أنه إذا قيل : تقوم به أمور وجودية ، ولم يلزم أن يقوم به كل موجود ، لأن قيام الصفات الوجودية به لم يكن لمجرد كونها موجودة ، حتى يقوم به كل موجود ، وهذا كما إذا قلنا : إن رب العالمين قائم بنفسه ، وهو موجود ، وهو ذات متصفة بالصفات ، لم يلزم من ذلك أن يكون كل ما هو قائم بنفسه ، وهو موجود ، وهو ذات متصفة بالصفات ، أن يكون رب العالمين .

والناس متنازعون في صفاته : هل تسمى أعراضا أو لا تسمى؟ مع تنازعهم في ثبوتها ونفيها ، ففي مثبتة الصفات ونفاتها من يسميها أعراضا . [ ص: 56 ]

فإذا قيل : لو جاز أن يقوم به عرض لزم أن يقوم به كل عرض ، لكان هذا أيضا باطلا ، فإن ذلك لم يكن لكونه عرضا فيلزم قيام كل عرض به .

التالي السابق


الخدمات العلمية