صفحة جزء
وأما القسم الرابع : وهو قدم أعيانها لا أنواعها ، فهذا لا يقوله عاقل. وعلى التقديرين فإما أن يمكن اجتماعها ، وإما أن لا يمكن . فهذه خمسة أقسام .

وأيضا فإذا أمكن الاجتماع ، فإما أن يكون بقاؤها ممكنا ، وإما أن لا يكون. فالقول المذكور عن الكرامية يتضمن حدوث أعيانها وأنواعها ، لكن مع إمكان اجتماعها وبقائها بعد الحدوث، وهذا قول من أقوال متعددة .

وبإزاء ذلك من يقول : يجب حدوثها ويمتنع بقاؤها: إما مع إمكان الاجتماع، وإما مع عدم إمكان الاجتماع .

ومن يقول: يجب قدم نوعها لا قدم أعيانها، قد يقول بإمكان الاجتماع، وقد لا يقول .

والناس متنازعون في تكليم الله لعباده : هل هو مجرد خلق إدراك لهم من غير تجدد تكليم من جهته ؟ أم لا بد من تجدد تكليم من جهته؟ على قولين للمنتسبين إلى السنة وغيرهم، من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم . [ ص: 129 ]

فالأول : قول الكلابية والسالمية ، ومن وافقهم من أصحاب هؤلاء الأئمة القائلين بأن الكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته ، بل هو بمنزلة الحياة .

والثاني : قول الأكثرين من أهل الحديث والسنة من أصحاب هؤلاء الأئمة وغيرهم. وهو قول أكثر أهل الكلام من المرجئة والشيعة والكرامية والمعتزلة وغيرهم .

قالوا : ونصوص الكتاب والسنة تدل على هذا القول ، ولهذا فرق الله بين إيحائه وتكليمه ، كما ذكر في سورة النساء وسورة الشورى .

والأحاديث التي جاءت بأنه يكلم عباده يوم القيامة ويحاسبهم، وأنه إذا قضى أمرا في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، إلى غير ذلك مما يطول ذكره .

وإذا كان كذلك امتنع أن لا يقوم كلام الله به ، فإنه يلزم أن لا يكون كلامه ، بل كلام من قام به ، كما قد قرر في موضعه .

والله سبحانه يحاسب الخلق في ساعة واحدة ، لا يشغله حساب هذا عن حساب هذا. وكذلك إذا ناجوه ودعوه أجابهم ، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل . فإذا قال [العبد] : الحمد لله رب العالمين . قال الله: حمدني عبدي. فإذا قال : الرحمن الرحيم . قال الله: أثنى علي عبدي . فإذا قال : مالك يوم الدين. قال : مجدني عبدي. فإذا [ ص: 130 ] قال : إياك نعبد وإياك نستعين . قال : هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل . فإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. قال : هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل .

فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يقول هذا لكل مصل ، والناس يصلون في ساعة واحدة، والله تعالى يقول لكل منهم هذا .

وقد روي أن ابن عباس قيل له : كيف يحاسب الله الخلق في ساعة واحدة؟ فقال : كما يرزقهم في ساعة واحدة. وأمثال ذلك كثير .

وحينئذ فمن قال : إن هذه أقوال قائمة بنفسه تتعلق بمشيئته وقدرته، يلزمه أحد أمرين: إما أن يقول باجتماعها في محل واحد ، وإما أن يقول : إن ذاته واسعة تسع هذه الأقوال كلها .

ونحن نعقل أن يقوم بالذات الواحدة حروف كثيرة في آن واحد ، وأصوات مجتمعة في آن واحد، لكن لا يكون هذا حيث هذا، إذ لا يعقل في الشاهد أنهما يجتمعان في محل واحد .

وقد يقال : إن مثل هذا يجيء على قول من يقول : إنه يقوم بذاته علوم لا نهاية لها ، وإرادات لا نهاية لها ، وقدر لا نهاية لها ، فإن ذلك كقيام أفعال وأقوال لا نهاية لها . وهذا على وجهين : فمن قال : [ ص: 131 ] إن ذلك يقوم به على سبيل التعاقب، فهو كمن يقول: إنه تقوم به الكلمات والأفعال على سبيل التعاقب .

ومن قال : إنها كلها أزلية ، كما تقوله طائفة يقولون : إنه تقوم به علوم لا نهاية لها في آن واحد ، كما يقوله أبو سهل الصعلوكي وغيره ، فإن هذا يشبه قول من يقول : تقوم به حروف لا نهاية لها في آن واحد .

لكن قد يقال : اجتماع العلوم بمعلومات ، والإرادات بمرادات ، قد يقال: إنه لا يتضاد كاجتماع معاني الكلام، بخلاف اجتماع حروف، فإنه كاجتماع أصوات ، واجتماع أصوات كاجتماع حركات .

التالي السابق


الخدمات العلمية