صفحة جزء
وأيضا فقول القائل: "إما أن تكون مختصا بذلك المقدار لذاته أو لأمر خارج .

يقال له: أتريد بذاته مجرد الجسمية المشتركة أم ذاته الذي يختص بها ويمتاز بها عن غيره؟

أما الأول فلا يقوله عاقل ، فإن عاقلا لا يعلل الحكم المختص بالأمر [ ص: 202 ] المشترك ، فلا يقول عاقل : إن ما اختص به أحد الشيئين عن الآخر كان للقدر المشترك بينهما ، فإن القدر المشترك بين الشيئين لا يستلزم المختص ، فضلا عن أن يكون علة للمختص ، والعلة مستلزمة للمعلول ، والملزوم أعم من العلة، فإذا لم يكن المشترك ملزوما للمختص ، كان أن لا يكون علة أولى وأحرى، فإن الملزوم حيث وجد وجد اللازم .

ومعلوم أنه ليس حيث المشترك يوجد المختص ، إذ المشترك يوجد في هذا ، والمختص بالآخر منتف .

وفي الجملة فهذا مما لا يتنازع فيه العقلاء ، فلا يكون اختصاص أحد الجسمين [عن الآخر] بخصائصه لمجرد الجسمية المشتركة ، بل تلك الخصائص مما يمتنع ثبوتها لسائر الأجسام .

وحينئذ فيقال : معلوم أن كل جسم مختص بخصائص وخصائصه لا تكون لأجل الجسمية المشتركة ، وذلك يمنع تماثل الأجسام ، لأنها لو كانت متماثلة للزم أن يكون اختصاص بعضها بخصائصه لمخصص، والمخصص: إما الرب وإما غيره ، وتخصيص غيره ممتنع ، لأنه جسم من الأجسام، فالكلام فيه كالكلام في غيره ، ولأن التقدير أنها متماثلة ، فليس هذا بالتخصيص أولى من هذا، وتخصيصه أيضا ممتنع ، [ ص: 203 ] لأنه يستلزم ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بغير مرجح، وذلك ممتنع .

وإذا قيل: المرجح هو القدرة والمشيئة .

قيل: نسبة القدرة والمشيئة إلى جميع المتماثلات سواء ، فيمتنع الترجيح بمجرد ذلك ، فلا بد أن يكون المرجح ما لله تعالى في ذلك من الحكمة ، والحكمة تستلزم علم الحكيم بأن أحد الأمرين أولى من الآخر ، وأن يكون ذلك الراجح أحب إليه من الآخر . وحينئذ فذلك يستلزم تفاضل المعلومات المرادات ، وذلك يمنع تساويها، وهو المطلوب .

وهذا الكلام يتعلق بمسألة حكمة الله في خلقه وأمره ، وهو مبسوط في غير هذا الموضع . ونفاة ذلك غاية ما عندهم: أنهم يزعمون أن ذلك يقتضي افتقاره إلى الغير ، لأن من فعل شيئا لمراد كان مفتقرا إلى ذلك المراد مستكملا به ، والمستكمل بغيره ناقص بنفسه .

وهذه الحجة باطلة كبطلان حجتهم في نفي الصفات ، وذلك أن لفظ "الغير" مجمل. فإن أريد بذلك أنه يفتقر إلى شيء مباين منفصل عنه، فهذا ممنوع فإن مفعولاته ومراداته هو الفاعل لها كلها ، لا يحتاج في شيء منها إلى غيره، وإن أريد بذلك أنه يفتقر إلى ما هو مقدور له مفعول له ، كان حقيقة ذلك أنه مفتقر إلى نفسه أو لوازم نفسه .

ومعلوم أنه سبحانه موجود بنفسه لا يفتقر إلى ما هو غير له مباين [ ص: 204 ] له ، وأنه مستوجب لصفات الكمال التي هي من لوازم ذاته . فإذا قال القائل : إنه مفتقر إلى نفسه، كان حقيقته أنه لا يكون موجودا إلا بنفسه ، وهذا المعنى حق .

وإذا قيل هو مفتقر إلى صفاته اللازمة ، أو جزئه ، أو لوازم ذاته، أو نحو ذلك كان حقيقة ذلك أنه لا يكون موجودا إلا بصفات الكمال ، وأنه يمتنع وجوده دون صفات الكمال التي هي من لوازم ذاته ، وهذا حق ومعلوم : أن الأمور التي لا يمكن وجودها إلا حادثة متعاقبة ليس الكمال في أن يكون كل منها أزليا ، فإن ذلك ممتنع ، ولا في أن ذلك لا يكون ، فإن ذلك نقص وعدم ، بل في أن تكون بحسب إمكانها على ما تقتضيه الحكمة ، فيكون وجود تلك المرادات الحادثة من الكمالات التي يستحقها ولا يحتاج فيها إلى غيره ، فيكون فعله ما يفعله للحكمة من أعظم نعوت الكمال التي يجب أن يوصف بها ، ونفيها عنه يقتضي وصفه بالنقائص ، وإن كل كمال يوصف به فليس مفتقرا فيه إلى غيره أصلا ، بل هو من لوازم ذاته سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، الذين يصفونه بالنقائص ، ويسلبونه الحكمة التي هي من أعظم نعوت الكمال ، توهما أن إثباتها يقتضي الحاجة [ ص: 205 ] إلى غيره ، وذلك غلط محض ، بل لا يقتضي إثباتها إلا استلزام ذاته لنعوت كماله وكمال نعوته، لا افتقار إلى شيء مباين لنفسه المقدسة .

التالي السابق


الخدمات العلمية