صفحة جزء
[ ص: 212 ] قوله : "إن كان غير متناه من جميع الجهات فهو محال لوجوه: الأول ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهى" .

فيقال له: أنت قد أبطلت أدلة نفاة ذلك، ولم تذكر إلا دليلا هو أضعف من أدلة غيرك، فبقيت الدعوى بلا دليل .

قوله : "الثاني: أنه يلزم منه نفي الأجسام أو تداخلها ، ومداخلة القاذورات" .

فيقال: هؤلاء يقولون : لا يلزم منه شيء من ذلك ، بل هو غير متناه مع كونه جسما، أو مع كونه غير جسم، ويقولون : لا يلزم نفي سائر الأجسام ولا مداخلتها . فإذا قيل لهم: هذا ينفيه العقل. قالوا: نفي العقل لهذا كنفيه وجوده قائما بنفسه فاعلا للعالم ، وهو مع ذلك لا حال في العالم ولا بائن من العالم ، بل نفي العقل لهذا أعظم من نفيه لهذا، وما قيل من الاعتذار عن ذلك بالفرق بين الوهم والعقل يمكن في هذا بطريق الأولى ، كما قد بسط في موضعه .

فإن هؤلاء ادعوا أن [قول] القائل كل موجودين إما أن يكونا متحايثين ، أو متباينين ، أو كل موجودين قائمين بأنفسهما فإما: أن يكونا متباينين ، أو متلاصقين ، أو كل موجود قائم بنفسه فلا بد أن يكون [ ص: 213 ] مشارا إليه . وأن قول القائل بإثبات موجود لا هو داخل العالم ولا خارجه ، ولا حال فيه ولا مباين له، ولا يشار إليه ، ولا يقرب من شيء، ولا يبعد من شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء -وأمثال ذلك من الصفات السالبة النافية- هو محال في العقل .

قالوا: إن هذا الموجب لذلك التقسيم ، والمحيل لوجود هذا ، إنما هو الوهم دون العقل ، وأن الوهم يحكم غير المحسوس بحكم المحسوس ، وهذا باطل .

فقيل لهم: فأنتم لم تثبتوا بعد وجود ما لا يمكن الإحساس به، وحكم الفطرة أولي بديهي ، والوهم عندكم إنما يدرك الأشياء المعينة كإدراك العداوة والصداقة ، كإدراك الشاة عداوة الذئب وصداقة الكبش . وهذه أحكام كلية، والكليات من حكم العقل لا من حكم الوهم .

فهذا وأمثاله مما أبطل به ما ذكروه من الاعتذار بأن هذا حكم الوهم. لكن المقصود هنا أن ذلك العذر -إن كان صحيحا- فلمنازعيهم أن يعتذروا به ههنا، فيقولون : ما ذكرتموه من كونه لو كان فوق العرش ، أو لو كان جسما، لكان ممتدا متناهيا أو غير متناه، هو من حكم الوهم ، وهو فرع كونه قابلا لثبوت الامتداد ونفيه ، أو لثبوت النهاية ونفيها ، ونحن نقول: هو فوق العرش ، أو هو [فوق العرش] وهو مع ذلك لا يقبل أن يكون ممتدا ولا غير [ ص: 214 ] ممتد ، ولا أن يكون متناهيا ولا غير متناه ، كما قلتم أنتم: إنه موجود قائم بنفسه، مبدع للعالم، مسمى بالأسماء الحسنى، وأنه مع ذلك لا يقبل أن يقال: هو متناه ولا غير متناه ، بل ذاته لا تقبل إثبات ذلك ولا نفيه ولا تقبل أن يقال: هو حال في العالم ولا خارج عنه، فلا توصف ذاته بالدخول ولا بالخروج ، فإن ذاته لا تقبل الاتصاف لا بإثبات ذلك ولا بنفيه .

فهذا ونحوه قولكم، فإن كان هذا القول صحيحا أمكن من أثبت العلو دون التجسيم ، أو العلو والتجسيم، ونفى ما يذكر من لوازمه أن يقول فيه ما تقولونه أنتم حيث أثبتم موجودا قائما بنفسه مبدعا للعالم ، ونفيتم ما يذكر من لوازمه ، فإن لزوم تلك اللوازم لما أثبتوه أظهر في صريح العقل من لزوم هذه اللوازم لما أثبته هؤلاء ، فإن أمكنكم نفي اللزوم ، وادعيتم أن القول باللزوم وإحالة ما أثبتموه من حكم الوهم دون العقل، أمكن خصومكم أن يقولوا مثل ذلك بمثل ما قلتموه بطريق الأولى .

وهذا يفهمه من تصور حقيقة قول الطائفتين وأدلتهم العقلية ، فإنه إذا قابل بين قول هؤلاء وقول هؤلاء تبين له صحة الموازنة ، وأن الإثبات [ ص: 215 ] أقرب إلى صريح المعقول وأبعد عن التناقض ، كما أنه أقرب إلى صحيح المنقول .

التالي السابق


الخدمات العلمية