صفحة جزء
وقوله : "وإن كان الاشتراك بوجوب الوجود فهو ممتنع لوجهين : الوجه الأول : أن المشترك إما أن يتم بدون ما به الافتراق ، وذلك محال ، وإلا كان المطلق متحققا في الأعيان من غير مخصص ، وإن لم يتم إلا بما به الافتراق كان وجوب الوجود ممكنا لافتقاره في تحققه إلى غيره" .

قلنا : أن أريد بالمشترك بينهما المعنى المطلق الكلي فذاك لا يفتقر إلى ما به الامتياز ، وليس له ثبوت في الأعيان حتى يقال : إنه يلزم أن يكون [ ص: 257 ] المطلق في الأعيان من غير مخصص ، وإن أريد به ما يقوم بكل منهما من المشترك ، وهو ما يوجد في الأعيان من الكلي ، فذاك لا اشتراك فيه في الأعيان ، فإن كل ما لأحدهما فهو مختص به لا اشتراك فيه .

وحينئذ فالموجود من الوجوب هو مختص بأحدهما بنفسه ، لا يفتقر إلى مخصص ، فلا يكون الوجوب الذي لكل منهما في الخارج مفتقرا إلى مخصص ، وإذا لم يكن ذلك بطل ما احتجوا به على كونه ممكنا . وأما المشترك الكلي المطلق من الوجوب فذاك ليس موجودا لهذا ولا لهذا ، ولا متحققا في الأعيان . وحينئذ فلا يلزم أن الكلي يتحقق في الأعيان بلا مخصص .

وأيضا فيقال : هب أن المشترك لا يتحقق في الأعيان إلا بالمختص ، فهذا لا يمنع وجوب وجوده ، إذ الواجب هو ما لا فاعل له ، ليس هو ما لا لازم ولا ملزوم له .

وهذا الآمدي ذكر هذا فيما تقدم ، وبين أن الوجود الواجب لا يمتنع توقفه على القابل ، وإنما يمتنع توقفه على الفاعل .

وبهذا يبطل الوجه الثاني وهو كون الوجود الواجب مركبا مما به [ ص: 258 ] الاشتراك وما به الامتياز ، [فإن ما به الاشتراك لم يوجد في الخارج ، وما به الامتياز لم يقع فيه اشتراك ، فليس في أحدهما ما به الاشتراك وما به الامتياز] ، ولكن كل منهما موصوف بصفة يشابه بها الآخر وهو الوجوب ، واتصاف الموصوف بصفة يشابه بها غيره من وجه وأمر يختص به ، إنما يوجب ثبوت معان تقوم به ، وأن ذاته مستلزمة لتلك المعاني ، وهذا لا ينافي وجوب الوجود ، بل لا يتم وجوب الوجود إلا به ، ولو سلم أن مثل هذا تركيب فلا نسلم أن مثل هذا التركيب ممتنع ، كما تقدم بيانه .

فقد تبين بطلان الوجه الأول من وجهين ، وبطلان الوجه الثاني من وجهين ، غير ما ذكروه ، والله أعلم .

والوجه الأول من الوجهين هو الذي اعتمده ابن سينا في إشارته ، وقد بسطنا الكلام عليه في جزء مفرد ، شرحنا فيه أصول هذه الحجة التي دخل منها عليهم التلبيس في منطقهم وإلهياتهم ، وعلى من اتبعهم كالرازي والسهروردي والطوسي وغيرهم .

وقد ذكرنا عنه هناك جوابين :

أحدهما : أن هؤلاء عمدوا إلى الصفات المتلازمة في العموم ، والخصوص ، ففرضوا بعضها مختصا ، وبعضها عاما بمجرد التحكم ، كالوجود والثبوت ، والحقيقة والماهية ، ونحو ذلك . [ ص: 259 ]

فإذا قيل : الواجب والممكن كل منهما يشارك الآخر في الوجود ، ويفارقه بحقيقته أو ماهيته .

قيل لهم : معنى الوجود يعمهما ومعنى الحقيقة يعمهما ، وكل منهما يمتاز عن الآخر بوجوده المختص به ، كما يمتاز عنه بحقيقته التي تختص به ، فليس جعل هذا مشتركا وهذا مختصا بأولى من العكس .

وهكذا إذا قدر واجبان لكل منهما حقيقة فهما مشتركان في مطلق الوجوب ومطلق الحقيقة ، وكل منهما يمتاز عن الآخر بما يخصه من الوجوب والحقيقة . فما قلتم به الامتياز متلازم ، وما قلتم به الاشتراك متلازم ، ولا يفتقر ما جعلتم به الاشتراك إلى ما جعلتم به الامتياز ، ولا ما جعلتم به الامتياز إلى ما جعلتم به الاشتراك ، بل كل منها موصوف بما به الامتياز ، وهو ما يخصه . وتلك الخصائص تشابه خصائص الآخر من بعض الوجوه ، فذلك القدر المشترك الذي لا يختص بأحدهما هو ما به الاشتراك .

فإذا قيل : هذا لون وهذا لون ، كانت لونية كل منهما مختصة به ، واللونية العامة مشتركة بينهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية