صفحة جزء
فصل .

ومما ينبغي معرفته في هذا الباب أن القائلين بنفي علو الله على خلقه ، الذين يستدلون على ذلك -أو عليه وعلى غيره- بنفي التجسيم [فإنهم] ينقضون الحجج التي يحتجون بها ، فتارة ينقض أحدهم الحجج التي يحتج . . . [كما ذكرناه] عن الرازي والآمدي [ ص: 278 ] [وأمثالهما] من حذاق النظار الذين جمعوا خلاصة ما ذكره النفاة من أهل الفلسفة والكلام بل يعارضون [ما يجب تصديقه] بما يعلم بصريح العقل أنه خطأ ، بل يعارضون السمعيات التي يعلم أن العقل الصريح [موافق لها بما يعلم العقل الصريح أنه باطل] [وتارة] كل طائفة تبطل الطريقة العقلية التي اعتمدت عليها الأخرى ، بما يظهر به بطلانها بالعقل الصريح ، وليسوا متفقين على طريقة واحدة .

وهذا يبين خطأهم كلهم من وجهين : من جهة العقل الصريح الذي بين به كل قوم فساد ما قاله الآخرون، ومن جهة أنه ليس معهم معقول اشتركوا فيه فضلا عن أن يكون من صريح المعقول .

بل المقدمة التي تدعي طائفة من النظار صحتها ، تقول الأخرى هي باطلة ، وهذا بخلاف مقدمات أهل الإثبات الموافقة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنها من العقليات التي اتفقت عليها فطر العقلاء السليمي الفطرة ، التي لا ينازع فيها إلا من تلقى النزاع تعليما من غيره ، لا من موجب فطرته ، فإنما يقدح فيها بمقدمة تقليدية أو نظرية ، [ ص: 279 ] لا ترجع إلى العقل الصريح ، وهو يدعي أنها عقلية فطرية .

ومن كان له خبرة بحقيقة هذا الباب تبين له أن جميع المقدمات العقلية التي ترجع إليها براهين المعارضين للنصوص النبوية ، إنما ترجع إلى تقليد منهم لأسلافهم ، لا إلى ما يعلم بضرورة العقل ولا إلى فطرة ، فهم يعارضون ما قامت الأدلة العقلية على وجوب تصديقه وسلامته من الخطأ ، بما قامت الأدلة العقلية على أنه لا يجب تصديقه ، بل قد علم جواز الخطأ عليه ، وعلم وقوع الخطأ منه فيما هو دون الإلهيات ، فضلا عن الإلهيات التي يتيقن خطأ من خالف الرسل فيها بالأدلة المجملة والمفصلة .

والمقصود هنا التنبيه على جوامع قدح كل طائفة في طريق الطائفة الأخرى من نفاة العلو ، أو العلو وغيره من الصفات ، بناء على نفي التجسيم ، ففحول أهل الكلام -كأبي علي، وأبي هاشم، والقاضي [ ص: 280 ] عبد الجبار ، وأبي الحسن الأشعري ، والقاضي أبي بكر ، وأبي الحسين البصري ، ومحمد بن الهيصم ، وأبي المعالي الجويني ، وأبي الوفاء بن عقيل ، وأبي حامد الغزالي ، وغيرهم- يبطلون طرق الفلاسفة التي بنوا عليها النفي ، منهم من يبطل أصولهم المنطقية، وتقسيمهم الصفات إلى ذاتي وعرضي ، وتقسيم العرضي إلى لازم للماهية ، وعارض لها ، ودعواهم أن الصفات اللازمة للموصوف منها ما هو ذاتي داخل في الماهية، ومنها ما هو عرضي خارج عن الماهية ، وبناءهم توحيد واجب الوجود -الذي مضمونه نفي الصفات- على هذه الأصول .

وهم في هذا التقسيم جعلوا الماهيات النوعية زائدا في الخارج على الموجودات العينية ، وليس هذا قول من قال : المعدوم شيء ، فإن أولئك يثبتون ذواتا معينة ثابتة في العدم تقبل الوجود المعين ، وهؤلاء يثبتون ماهيات كلية لا معينة . وأرسطو وأتباعه إنما يثبتونها مقارنة للموجودات المعينة لا مفارقة لها ، وأما شيعة أفلاطون فيثبتونها مفارقة ويدعون أنها أزلية أبدية ، وشيعة فيثاغورس تثبت أعدادا مجردة .

وما يثبته هؤلاء إنما هو في الأذهان ، ظنوا ثبوته في الخارج ، وتقسيمهم الحد إلى حقيقي ذاتي ، ورسمي أو لفظي ، أو تقسيم المعرف إلى حد ورسم ، هو بناء على هذا التقسيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية