صفحة جزء
وعامة نظار أهل الإسلام وغيرهم ردوا ذلك عليهم، وبينوا فساد [ ص: 281 ] كلامهم ، وأن الحد إنما يراد به التمييز بين المحدود وغيره ، وأنه يحصل بالخواص التي هي لازمة ملزومة ، لا يحتاج إلى ذكر الصفات العامة ، بل منعوا أن يذكر في الحد الصفات المشتركة بينه وبين غيره ، بل وأكثرهم منعوا تركيب الحد ، كما هو مبسوط في موضعه ، وقد صنف في ذلك متكلمو الطوائف ، كأبي هاشم وغيره من المعتزلة ، وابن النوبخت وغيره من الشيعة ، والقاضي أبي بكر وغيره من مثبتة الصفات .

وأما أبو حامد الغزالي فإنه -وإن وافقهم على صحة الأصول المنطقية ، وخالف بذلك فحول النظار الذين هم أقعد بتحقيق النظر في الإلهيات ونحوها من أهل المنطق ، واتبعه على ذلك من سلك سبيله كالرازي وذويه ، وأبي محمد بن البغدادي صاحب ابن المثنى وذويه- فقد بين في كتابه "تهافت الفلاسفة" وغيره من كتبه فساد قولهم في الإلهيات ، مع وزنه لهم بموازينهم المنطقية ، حتى [أنه] بين أنه لا حجة لهم على نفي التجسيم بمقتضى أصولهم المنطقية ، فضلا عن أن يكون لهم حجة على نفي الصفات مطلقا ، وإن كان أبو حامد قد يوجد في كلامه ما يوافقهم عليه تارة أخرى ، وبهذا [ ص: 282 ] تسلط عليه طوائف من علماء الإسلام ، ومن الفلاسفة أيضا، كابن رشد وغيره ، حتى أنشد فيه .


يوما يمان إذا ما جئت ذا يمن . . . وإن لقيت معديا فعدناني



فالاعتبار من كلامه وكلام غيره بما يقوم عليه الدليل ، وليس ذلك إلا فيما وافق فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يقوم دليل صحيح على مخالفة الرسول ألبتة .

وهذا كما أن ابن عقيل يوجد في كلامه ما يوافق المعتزلة والجهمية تارة ، وما يوافق به المثبتة للصفات -بل للصفات الخبرية- أخرى فالاعتبار من كلامه وكلام غيره بما يوافق الدليل ، وهو الموافق لما جاء به الرسول .

والمقصود هنا أن نبين أن فحول النظار بينوا فساد طرق من نفى الصفات ، أو العلو بناء على نفي التجسيم . وكذلك فحول الفلاسفة -كابن سينا ، وأبي البركات، وابن رشد ، وغيرهم- بينوا فساد طرق أهل الكلام -من الجهمية والمعتزلة والأشعرية- التي نفوا بها التجسيم ، حتى [أن] ابن رشد في "تهافت التهافت" بين فساد ما اعتمد عليه هؤلاء ، كما بين أبو حامد في "التهافت" فساد ما اعتمد عليه الفلاسفة . [ ص: 283 ]

ولهذا كان في عامة طوائف النظار من يوافق أهل الإثبات على إثبات الصفات ، بل وعلى قيام الأمور الاختيارية في ذاته وعلى العلو ، كما يوجد فيهم من يوافقهم على أن الله خالق أفعال العباد ، فأحذق متأخري المعتزلة هو أبو الحسين البصري ، ومن عرف حقيقة كلامه علم أنه يوافق على إثبات كونه حيا عالما قادرا ، وعلى أن كونه حيا ليس هو كونه عالما ، وكونه عالما ليس كونه قادرا، لكنه ينازع مثبتة الأحوال الذين يقولون : ليست موجودة ولا معدومة .

وهذا الذي اختاره هو قول أكثر مثبتة الصفات ، فنزاعه معهم نزاع لفظي ، كما أنه يوافق على أن الله يخلق الداعي في العبد ، وعند وجود الداعي والقدرة يجب وجود المقدور .

وهذا قول أئمة أهل الإثبات وحذاقهم الذين يقولون : إن الله خالق أفعال العباد . وهو أيضا يقول : إنه سبحانه مع علمه بما سيكون، فإنه إذا كان يعلمه كائنا فعالميته متجددة .

وابن عقيل يوافق على ذلك ، وكذلك الرازي وغيره ، وهذا موافق لقول من يقول بقيام الحوادث به .

وبعض حذاق المعتزلة نصر القول بعلو الله ومباينته لخلقه بالأدلة العقلية ، وأظنه من أصحاب أبي الحسين . [ ص: 284 ]

وقد حكى ابن رشد ذلك عن أئمة الفلاسفة . وأبو البركات وغيره من الفلاسفة يختارون قيام الحوادث به كإرادات وعلوم متعاقبة ، وقد ذكروا ذلك وما هو أبلغ منه عن متقدمي الفلاسفة ، كما ذكرت أقوالهم في غير هذا الموضع ، [وتقدم بعضها] .

والمقصود هنا أن جميع ما احتج به النفاة قدح فيه بعض النفاة قدحا يبين بطلانه ، كما بين غير واحد فساد طرق الفلاسفة .

التالي السابق


الخدمات العلمية