صفحة جزء
وأما قول ابن سينا: "وهل هو: واحد الذات على كثرة الأوصاف أو قابل لكثرة؟ تعالى عنها بوجه من الوجوه.

فيقال له: الكتاب الإلهي مملوء بإثبات الصفات لله تعالى، كالعلم والقدرة والرحمة ونحو ذلك، ولم يتنازع اثنان من العقلاء أن النصوص ليست دالة على نفي الصفات، بل إنما هي دالة على قول أهل الإثبات، لكن غاية ما تدعيه النفاة أن ظاهرها دال على ذلك وأنه يمكن تأويله للدليل المعارض.

ولا ريب أن ما ذكره لازم لنفاة الصفات، إذ لو كان قولهم هو الحق لكان الواجب بيان ذلك، وإن لم يبين فلا أقل من السكوت عن [ ص: 51 ] الحق ونقيضه، فأما ذكر ما يدل ظاهره على نقيض الحق، من غير ذكر للحق، فهذا ممتنع في حق من قصده هدى الخلق، وإن كان هذا جائزا، فهو حجة لهؤلاء الملاحدة عليهم في المعاد، بل وفي الشرائع أيضا، فإن أجابوا الملاحدة في المعاد بأنا نعلم بالاضطرار معاد الأبدان من أخبار الرسول، فلا يحتاج أن نتلقاه من ألفاظ السمع، لئلا يقدح في دلالة السمع بالتأويل، كان هذا جوابا بعينه لأهل الإثبات، فإنهم يقولون: إنا نعلم بالاضطرار أن إثبات الصفات مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه أخبر الأمة أن ربهم الذي يعبدونه فوق العالم، وأنه عليم قدير رحيم، له العلم والقدرة والرحمة، إلى أمثال ذلك من الصفات.

والعلم بإثبات الصفات من قول الله ورسوله، بعد تدبر النصوص الإلهية، علم ضروري لا يرتاب فيه، وهو أبلغ من العلم بثبوت الشفعة، وميراث الجدة، وتحريم المرأة على عمتها وخالتها، وسجود السهو في الصلاة، ونحو ذلك من الأحكام المعلومة عند الخاصة دون العامة، فإن ما في الكتب الإلهية من إثبات علو الله تعالى، وإثبات صفاته وأسمائه، هو من العلم العام الذي علمته الخاصة والعامة، كعلمهم بعدد الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وغير ذلك من الشرائع الظاهرة المتواترة، ولا تجد أحدا من نفاة الصفات يعتمد في ذلك على الشرع، ولا يدعي أن أصل اعتقاده لذلك من جهة الكتاب والسنة، ولا ينقل قوله عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أئمة المسلمين المشهورين بالعلم والدين، وإنما ينقل قوله في النفي [ ص: 52 ] عمن هو معروف بتقليد أو بدعة أو إلحاد، وعلى قدر بدعته وإلحاده يكون إيغاله في النفي وبعده عن الإثبات.

التالي السابق


الخدمات العلمية