صفحة جزء
وابن سينا وأمثاله من ملاحدة الفلاسفة لما كانوا إنما يخاطبون من المسلمين من هو ناقص في العلم والدين: إما رافضي، وإما معتزلي، وإما غيرهما، صاروا يتكلمون في خيار القرون بمثل هذا الكلام.

وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.

ثم يقال لهذا الأحمق: لا ريب أن كل أمة فيها ذكي وبليد [ ص: 71 ] بالنسبة إليها، لكن هل رأى في أجناس الأمم أمة أذكى من العرب؟

واعتبر ذلك باللسان العام، وما فيه من تفصيل المعاني، والتمييز بين دقيقها وجليلها بالألفاظ الخاصة الناصة [على] الحقيقة، ويليه في الكمال اللسان العبراني، فأين هذا من لسان أصحابك الطماطم، الذين يسردون ألفاظا طويلة والمعنى خفيف؟ ولولا أن مثلك وأمثالك ممن شملته بعض سعادة المسلمين والعرب، فصار فيكم بعض كمال الإنسان في العقل واللسان، فعربتم تلك الكتب وهذبتموها وقربتموها إلى العقول، وإلا لكان فيها من التطويل والهذيان ما يشح بمثله على الزمان، وهي، كما قال فيها أبو حامد الغزالي: "هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها، وإن بعض الظن إثم" فإن ما يقوم عليه الدليل، من الرياضي ونحوه، كثير التعب قليل الفائدة، لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى، وما لم يقم عليه الدليل فظنون وأباطيل.

ثم يقال له: هب أن ما ذكرته من غتم العبرانيين والعرب أهل الوبر لا يمكنهم معرفة الدقيق، فهل يمكنك أن تقول ذلك في أذكياء [ ص: 72 ] العرب والعبرانيين، وكل أحد يعلم أن عقول الصحابة والتابعين وتابعيهم أكمل عقول الناس.

واعتبر ذلك بأتباعهم، فإن كنت تشك في ذكاء مثل: مالك، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وزفر بن الهذيل، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، وأبي عبيد، وإبراهيم الحربي، وعبد الملك بن حبيب الأندلسي، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، وعثمان بن سعيد الدارمي، بل ومثل: أبي العباس بن سريج، وأبي جعفر الطحاوي، وأبي القاسم الخرقي، وإسماعيل بن إسحاق القاضي، وغيرهم من أمثالهم - فإن شككت في ذلك فأنت مفرط في الجهل أو مكابر، فانظر خضوع هؤلاء للصحابة وتعظيمهم لعقلهم وعملهم، حتى إنه لا يجترئ الواحد منهم أن يخالف لواحد من الصحابة [إلا] أن يكون قد خالفه صاحب آخر. [ ص: 73 ]

وقد قال الشافعي رحمة الله عليه في "الرسالة": "إنهم فوقنا في كل عقل وعلم، وفضل وسبب ينال به علم، أو يدرك به صواب، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا" أو، كما قال رحمة الله عليه.

التالي السابق


الخدمات العلمية