صفحة جزء
وقوله: "هبك الكتاب العزيز جاء على لغة العرب في الاستعارة والمجاز، فما قولهم في الكتاب العبراني، وهو من أوله إلى آخره تشبيه صرف؟" إلى آخر كلامه.

فيقال: هذا من أعظم حجج أهل الإثبات على نفاة الصفات، [ ص: 77 ] ومن أعظم الحجج على صدق الرسولين العظيمين، وصدق الكتابين الكريمين، اللذين لم يأت من عند الله كتاب أهدى منهما.

قال تعالى: ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى [سورة القصص: 43]، إلى قوله: قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا [سورة القصص: 48]، إلى قوله قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين الآيات [سورة القصص: 49].

وقال تعالى حكاية عن الجن: قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم [سورة الأحقاف: 30].

وقال تعالى: وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها [سورة الأنعام: 91، 92].

وقال تعالى: ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون [سورة الأنعام: 154 ]- 155. [ ص: 78 ] فقد قرن الله تعالى بين الكتابين العربي والعبري في غير موضع.

ومن المعلوم أن موسى كان قبل محمد صلوات الله عليهما وسلامه.

ولم يأخذ عنه شيئا، وكل من عرف حال محمد صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لم يأخذ عن أهل الكتاب شيئا، فإذا أخبر هذا بمثل ما أخبر به مرسل واحد من غير تواطؤ ولا تشاعر فيما يمتنع في العادة التوافق فيه من غير تواطؤ، كان هذا مما يدل على صدق كل من الرسولين في أصل الرسالة، وعلى صدق خبر كل من الرسولين فيما أخبر به صفات ربه، إذ كان كل منهما أخبر بمثل ما أخبر به الآخر.

وهب أن بعض ألفاظ أحد الكتابين قد يحرفها المحرف، فالكتاب الآخر المصدق له يبطل ذلك التحريف، ويبين أن المقصود واحد.

وما ذكره من امتناع التحريف على كلية الكتاب العبري حق كما قال، ويبين ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بين من تحريف أهل الكتاب ما شاء الله، وذمهم على ما وصفوا الله تعالى به من النقائص، كقولهم: إن الله فقير، وإن الله بخيل، وإنه تعب لما خلق [ ص: 79 ] السماوات والأرض فاستراح، فقال تعالى: وما مسنا من لغوب [سورة ق: 38].

فلو كان ما في التوراة من إثبات الصفات مما بدلوه وافتروه، لكان إنكار هذا من أعظم الواجبات، ولكان الرسول يعيبهم بما ينكره النفاة من التشبيه والتجسيم، وأمثال هذه العبارات، فلما كان الرسول العربي مقررا لما في التوراة من الصفات ومخبرا بمثل ما في التوراة، كان ذلك من أعظم دليل على أن ما في التوراة من الصفات التي أخبر بها الرسول العربي أيضا، ليس مما كذبه أهل الكتاب.

وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود أن حبرا من اليهود لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يوم القيامة يمسك السماوات على أصبع والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك - ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا لقول الحبر، ثم قرأ قوله تعالى: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه [سورة الزمر: 67].

وهذا الحديث رواه من هو من أعلم الصحابة وأعظمهم اختصاصا [ ص: 80 ] بالنبي صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن مسعود، ورواه عنه وعن أصحابه من هو أجل التابعين وأتباع التابعين قدرا، ورواه أيضا عبد الله بن عباس الذي هو من أعلم الصحابة في زمانه، وأصحاب ابن مسعود وابن عباس من أعظم التابعين علما وقدرا عند الأمة.

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهما أيضا من حديث ابن عمر في تفسير هذه الآية وما قدروا الله حق قدره [سورة الزمر: 67]، ما يناسب هذا الحديث [ ص: 81 ] ويوافق قول أهل الإثبات، ويبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ينكر على أهل الكتاب ما يخبرون به من الصفات التي تسميها النفاة تجسيما وتشبيها، وإنما أنكر عليهم ما وصفوا الله تعالى به من النقائص والعيوب.

ولهذا لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين أنهم ذموا أهل الكتاب بما يذمهم به نفاة الصفات، ولا يذكرون لفظ التجسيم ونحوه من الألفاظ التي أحدثها المحدثون: لا بمدح ولا ذم، ولا يقولون ما تقوله النفاة: إن التوراة فيها تشبيه، كما قال ابن سينا: "الكتاب العبراني كله من أوله إلى آخره تشبيه صرف".

فإنه يقال له: ما تعني بقولك: إنه تشبيه، أتعني أنه متضمن للإخبار بأن صفات الرب مثل صفات العباد، أو متضمن لإثبات الصفات التي يوصف الخلق بما هو بالنسبة إليهم كتلك الصفات بالنسبة إلى الله؟

فإن أردت الأول، فهذا كذب على التوراة، فليس فيها الإخبار بأن صفات الله كصفات عباده، بل فيها نفي التمثيل بالله.

وإن أردت الثاني، فهذا أمر لا بد منه لك ولكل أحد، فإنك وأمثالك تقولون: إن الله موجود، مع قولكم: إن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، وتقولون: إنه عقل وعاقل ومعقول.

مع قولكم: إن اسم العقل يقع على العقول العشرة، وتقولون: إنه علة للعالم، مع [ ص: 82 ] قولكم: إن العلة تنقسم إلى واجب وممكن، وقديم ومحدث، وتقولون: إن له عناية، مع أن لفظ "العناية" يقال على صفات العباد، وتقولون: إنه مبدأ ومبدع ونحو ذلك من العبارات التي تسمون بها غيره، فإنكم تطلقون اسم المبادئ على العقول، وتطلقون الإبداع على العقول، وتقولون: إن كل عقل أبدع ما دونه، والعقل العاشر أبدع ما تحت فلك القمر، وتقولون: إنه موجب بالذات مع أن لفظ الإيجاب يطلق على غيره.

ويقولون: إنه عاشق ومعشوق وعشق، مع أن لفظ العشق فيه من التشبيه واحتمال النقص ما لا يخفى على عاقل، وليس في الكتب الإلهية تسميته بعقل ولا عاشق ولا معقول ولا معشوق.

ويقولون أيضا: إنه يلتذ ويبتهج، ولفظ "اللذة" فيها من التشبيه واحتمال النقص ما لا يخفى على عاقل، ويقولون: إنه مدرك وأن اللذة أفضل إدراك لأفضل مدرك، فيسمونه مدركا ومدركا.

التالي السابق


الخدمات العلمية