صفحة جزء
قلت: فهذا الذي ذكره الإمام أحمد من مناظرة جهم لأولئك السمنية، هم الذين يحكي أهل المقالات عنهم أنهم أنكروا من العلم ما سوى الحسيات، ولهذا سألوا جهما: هل عرفه بشيء من الحواس الخمس؟ فقال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ فإنهم لا يعرفون إلا المحسوس، وليس مرادهم أن الرجل لا يعلم إلا ما أحسه، بل لا يثبتون إلا ما هو محسوس للناس في الدنيا.

وهؤلاء كالمعطلة الدهرية الطبائعية من فلاسفة اليونان ونحوهم، الذين ينكرون سوى هذا الوجود الذي يشاهده الناس ويحسونه، وهو وجود الأفلاك وما فيها.

وهؤلاء الذين ذكر ابن سينا قولهم في "إشاراته" حيث قال: قال قوم: إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه. لكنك إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجبا".

وهذا هو القول الذي أظهره فرعون، وإليه يعود عند التحقيق قول أهل الوحدة. لكن هؤلاء يعتقدون أنهم يثبتون الخالق، وأن وجوده [ ص: 169 ] وجود المخلوق، فهم متناقضون.

ثم إن جهم بن صفوان رد عليهم كرد أرسطو وابن سينا وأمثالهم من المشائين على الطبيعيين منهم، وهؤلاء يثبتون وجودا عقليا غير الوجود المحسوس، ويعتقدون أنهم بهذا الرد أبطلوا قول أولئك، كما تقدم حكاية قول ابن سينا لما تكلم على الوجود وعلله، وقال: "قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس" وأبطل هذا القول بإثبات الكليات، وقد تقدم التنبيه على فساد هذه الحجة، وأن الكليات تكون في الأذهان لا في الأعيان.

ومن لم يقر إلا بالمحسوس إنما نازع في الموجودات الخارجية، لم ينازع في المعقولات الذهنية، وإن نازع في ذلك حصلت الحجة عليه بإثبات المعقولات الذهنية، فتبقى الموجودات الخارجية، وهي الأصل.

التالي السابق


الخدمات العلمية