صفحة جزء
وقوله: أفغير الله أبتغي حكما [سورة الأنعام: 114] .

استفهام إنكار، يقول: كيف أطلب حكما غير الله، وقد أنزل الكتاب مفصلا يحكم بيننا؟

وقوله: (مفصلا) يبين أن الكتاب الحاكم مفصل مبين، بخلاف ما يزعمه من يعارضه بآراء الرجال، ويقول: إنه لا يفهم معناه، ولا يدل على مورد النزاع، فيجعله إما مجملا لا ظاهر له، أو مؤولا لا يعلم عين معناه، ولا دليل يدل على عين المعنى المراد به.

ولهذا كان المعرضون عن النصوص المعارضون لها، كالمتفقين على أنه لا يعلم عين المراد [به]، وإنما غايتهم أن يذكروا احتمالات كثيرة، ويقولون: يجوز أن يكون المراد واحدا منها.

ولهذا أمسك من أمسك منهم عن التأويل، لعدم العلم بعين المراد. [ ص: 222 ]

فعلى التقديرين لا يكون عندهم الكتاب الحاكم مفصلا، بل مجملا ملتبسا أو مؤولا بتأويل لا دليل على إرادته.

ثم قال: والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق [سورة الأنعام: 114] ، وذلك أن الكتاب الأول مصدق للقرآن، فمن نظر فيما بأيدي أهل الكتاب من التوراة والإنجيل، علم علما يقينا لا يحتمل النقيض أن هذا وهذا جاءا من مشكاة واحدة، لا سيما في باب التوحيد والأسماء والصفات، فإن التوراة مطابقة للقرآن موافقة له موافقة لا ريب فيها.

وهذا مما يبين أن ما في التوراة من ذلك، ليس هو من المبدل الذي أنكره عليهم القرآن، بل هو من الحق الذي صدقهم عليه. ولهذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ينكرون ما في التوراة من الصفات، ولا يجعلون ذلك مما بدله اليهود، ولا يعيبونهم بذلك ويقولون: هذا تشبيه وتجسيم، كما يعيبهم بذلك كثير من النفاة، ويقولون: إن هذا مما حرفوه، بل كان الرسول إذا ذكروا شيئا من ذلك صدقهم عليه، كما صدقهم في خبر الحبر، كما هو في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود، وفي غير ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية