صفحة جزء
الوجه التاسع

وهو أن يقال: القول بتقديم الإنسان لمعقوله على النصوص النبوية قول لا ينضبط؛ وذلك لأن أهل الكلام والفلسفة الخائضين المتنازعين فيما يسمونه عقليات، كل منهم يقول: إنه يعلم بضرورة العقل أو بنظره ما يدعي الآخر أن المعلوم بضرورة العقل أو بنظره نقيضه.

وهذا من حيث الجملة معلوم؛ فالمعتزلة ومن اتبعهم من الشيعة يقولون: إن أصلهم المتضمن نفي الصفات والتكذيب بالقدر ـ الذي يسمونه التوحيد والعدل ـ معلوم بالأدلة العقلية القطعية، ومخالفوهم من أهل الإثبات يقولون: إن نقيض ذلك معلوم بالأدلة القطعية العقلية.

بل الطائفتان ومن ضاهأهما يقولون: إن علم الكلام المحض هو ما أمكن علمه بالعقل المجرد بدون السمع، كمسألة الرؤية والكلام وخلق الأفعال، وهذا هو الذي يجعلونه قطعيا، ويؤثمون المخالف فيه.

وكل من طائفتي النفي والإثبات فيهم من الذكاء والعقل والمعرفة ما هم متميزون به على كثير من الناس، وهذا يقول: إن العقل الصريح دل على النفي، والآخر يقول: العقل الصريح دل على الإثبات. [ ص: 157 ]

وهم متنازعون في المسائل التي دلت عليها النصوص، كمسائل الصفات والقدر، وأما المسائل المولدة كمسألة الجوهر الفرد وتماثل الأجسام وبقاء الأعراض وغير ذلك ففيها من النزاع بينهم ما يطول استقصاؤه، وكل منهم يدعي فيها القطع العقلي.

ثم كل من كان عن السنة أبعد كان التنازع والاختلاف بينهم في معقولاتهم أعظم، فالمعتزلة أكثر اختلافا من متكلمة أهل الإثبات، وبين البصريين والبغداديين منهم من النزاع ما يطول ذكره، والبصريون أقرب إلى السنة والإثبات من البغداديين، ولهذا كان البصريون يثبتون كون البارئ سميعا بصيرا مع كونه حيا عليما قديرا، ويثبتون له الإرادة، ولا يوجبون الأصلح في الدنيا، ويثبتون خبر الواحد والقياس، ولا يؤثمون المجتهدين، وغير ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية