صفحة جزء
يوضح هذا أن المعارضين الذين يقولون بتقديم العقل على الشرع، قد اعترف حذاقهم بما يبين أن الشرع ليس مبنيا على معقول يعارض شيئا منه، وبيان ذلك في: [ ص: 289 ] الوجه الواحد والثلاثون

وهو أن نقول: قد ذكر أبو عبد الله الرازي في أجل كتبه "نهاية المعقول" ما ذكره غيره من أهل الكلام، فقال الرازي: "المطالب على ثلاثة أقسام: منها ما يستحيل العلم بها بواسطة السمع، ومنها ما يستحيل العلم بها إلا من السمع، ومنها ما يصح حصول العلم بها من السمع تارة ومن العقل أخرى. أما القسم الأول: فكل ما يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته استحال تصحيحه بالسمع، مثل العلم بوجود الصانع، وكونه مختارا وعالما بكل المعلومات وصدق الرسول. [ ص: 290 ]

أما العلم بحدوث العالم فذلك ما لا يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته، لأنه يمكننا أن نثبت الصانع المختار بواسطة حدوث الأعراض، أو بواسطة إمكان الأعراض، على ما سيأتي تفصيل القول فيه، ثم نثبت كونه عالما بكل المعلومات ومرسلا للرسل، ثم نثبت بأخبار الرسول حدوث العالم).

قال: "وبهذا يتبين خطأ قول من زعم أن أول الواجبات القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم".

قلت: هذا القول الذي خطأه الرازي هو الذي ذكره أبو المعالي في أول "الإرشاد"، كما ذكره طوائف من أهل الكلام: المعتزلة وغيرهم، وهو قول من وافقه على هذا من المنتسبين إلى الأشعري، وقالوا: إن العلم بحدوث العالم لا يمكن إلا بالعلم بحدوث الأجسام، ولا يمكن ذلك إلا بحدوث الأعراض، وليس هذا قول الأشعري وأئمة أصحابه، فإن [ ص: 291 ] إثبات الصانع عندهم لا يتوقف على هذه الطريق، بل قد صرح الأشعري في "رسالته إلى أهل الثغر" هو وغيره، بأن هذا الطريق ليس هو طريق الأنبياء وأتباع الأنبياء، بل هي محرمة في دينهم، ولكن الأشعري لا يبطل هذه الطريق، بل يقول: هي مذمومة في الشرع، وإن كانت صحيحة في العقل، وسلك هو طريقة مختصرة من هذا، وهو إثبات حدوث الإنسان بأنه مستلزم للحوادث، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، ووافقهم على أن المعلوم حدوثه هو الأعراض: كالاجتماع والافتراق، وأن ما يخلق من الحيوان والنبات والمعادن إنما تحدث أعراضه لا جواهره.

وكذلك الخطابي وطائفة معه، ممن يذم هذه الطريقة الكلامية التي ذمها الأشعري، يوافقون على صحتها مع ذمهم لها.

التالي السابق


الخدمات العلمية