صفحة جزء
الوجه الثاني: أن يقال: تلك الطرق التي لم تدل على صحة الشرع مطلقا، وإنما دلت على صدق الشارع فيما يخبر عنه من غير الصفات والأفعال التي تنفيها تلك الطرق، وحينئذ فلا تكون دالة على صدق الرسول مطلقا.

ومعلوم أن دليل الإيمان لا بد أن يدل على أن الرسول صادق في كل ما يخبر به مطلقا من غير تقييد بقيد، فمتى كان الدليل إنما دل على صدقه بشرط أن لا يعارضه موجب ذلك الدليل، صار مضمونه أن الرسول مصدق فيما لا يخالفني فيه، وليس مصدقا فيما يخالفني فيه.

ومعلوم أن هذا ليس إقرارا بصحة الرسالة، فإن الرسول لا يجوز عليه أن يخالف شيئا من الحق ولا يخبر بما تحيله العقول وتنفيه، [ ص: 297 ] لكن يخبر بما تعجز العقول عن معرفته فيخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول.

ولهذا قال الإمام أحمد في رسالته "في السنة" التي رواها عبدوس بن مالك العطار قال: ليس في السنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول.

هذا قوله وقول سائر أئمة المسلمين، فإنهم متفقون على أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا تدركه كل الناس بعقولهم، ولو أدركوه بعقولهم لاستغنوا عن الرسول، ولا يجوز أن يعارض بالأمثال المضروبة له، فلا يجوز أن يعارضه الناس بعقولهم، ولا يدركونه بعقولهم، فمن قال للرسول: أنا أصدقك إذا لم تخالف عقلي، أو أنت صادق فيما لم تخالف فيه الدليل العقلي، فإن كان يجوز على الرسول أن يخالف دليلا عقليا صحيحا لم يكن مؤمنا به وإن قدم على كلامه دليلا عقليا ليس [ ص: 298 ] بصحيح لم يكن مؤمنا به، فامتنع أن يصح الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم مع هذا الشرط.

التالي السابق


الخدمات العلمية