صفحة جزء
الوجه التاسع: أن يقال: الأدلة العقلية البرهانية المؤلفة من المقدمات اليقينية، هي موافقة لخبر الرسول لا معارضة له،ومن كان له خبرة بالأدلة العقلية وتأليفها، وتأمل أدلة المثبتة والنفاة، رأى بينهما من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق، فإن أدلة الإثبات أدلة صحيحة، مبنية على مقدمات يقينية خالصة من الشبهة، وأما حجج [ ص: 313 ] النفاة فجميعها مبناها على ألفاظ مجملة متشابهة، ومعان متشابهة. ولهذا متى وقع الاستفسار والتفصيل لمجمل كلامهم، ووقع البيان والتفصيل لمشتبه معانيهم، تبين لكل عاقل فاهم أن النفاة جمعوا بين المختلفات، وفرقوا بين المتماثلات، وسووا بين الشيئين اللذين هما في غاية التباين، لاشتراكهما في بعض الصفات.

ولهذا كان مآل أمرهم إلى أن جعلوا الوجود واحدا، فجعلوا وجود الخالق رب العالمين- الذي لا يماثله شيء من الموجودات بوجه من الوجوه، ومباينته لكل موجود أعظم من مباينة كل موجود لكل موجود - هو وجود أحقر المخلوقات وأصغر المخلوقات، أو مماثلا له لاتفاقهما في مسمى الوجود أو مسمى الذات أو الحقيقة، وصار أئمتهم النظار في هذه المسألة التي هي أول ما ينبغي لذي النظر أن يعرفه في حيرة عظيمة، فهذا يقول: الوجود واحد لاشتراك الموجودات في مسمى الوجود، ولا يميز بين الواحد بالعين، والواحد بالنوع أو الجنس اللغوي.

وهذا يقول: وجوده وجود مطلق: إما بشرط الإطلاق، وإما مطلقا لا بشرط، وإما بشرط سلب جميع الأمور الثبوتية عنه، وهذا يمتنع ثبوته عنه في الموجودات، وإنما يكون مثل هذا فيما تقدره الأذهان، لا فيما يوجد في الأعيان.

وغاية من يجعل ذلك ثابتا في الخارج، أن يجعل وجود الخالق هو وجود المخلوقات، أو جزءا منها، فيجعل افتقاره إلى المخلوقات كافتقار المخلوقات إليه، كما يقول من يفرق بين الوجود والثبوت. [ ص: 314 ]

وهذا يقول: لفظ (الوجود) و(الذات) وغيرهما، مقول عليه وعلى الموجودات بالاشتراك اللفظي المجرد كاشتراك (المشتري) و (سهيل) فتخرج الأسماء العامة الكلية كاسم (الوجود) و (الذات) و (النفس) و (الحقيقة) و (الحي) و (العالم) و (القادر) ونحو ذلك عن مسمياتها، وتسلبه العقول ما جعله الله فيها من المعاني والقضايا العامة الكلية، وهذه خاصة العقل التي تميز بها عن الحس، إلى أمثال هذه المقولات التي هي عند من فهمها وعرف حقيقة قول أصحابها، ضحكة للعاقل من وجه، وأعجوبة له من وجه، ومسخطة له من وجه.

ومثل هذه المعقولات لو تصرف بها في تجارة أو صناعة من الصناعات لأفسدت التجارة والصناعة، فكيف يتصرف بها في الأمور الإلهية وفي صفات رب البرية، ثم يعارض بها كلام الله الذي بعث به رسله وأنزل بها كتبه؟!

فمن تبحر في المعقولات، وميز بين البينات والشبهات، تبين له أن العقل الصريح أعظم الأشياء موافقة لما جاء به الرسول، وكلما عظمت بمعرفة الرجل بذلك، عظمت موافقة الرسول.

ولكن دخلت الشبهة في ذلك بأن قوما كان لهم ذكاء تميزوا به في أنواع العلوم: إما طبيعية كالحساب والطب، وإما شرعية كالفقه مثلا. وأما الأمور الإلهية فلم يكن لهم بها خبرة كخبرتهم بذلك، وهي أعظم المطالب، وأجل المقاصد، فخاضوا فيها بحسب أحوالهم، وقالوا [ ص: 315 ] فيها مقالات بعبارات طويلة مشتبهة، لعل كثيرا من أئمة المتكلمين بها لا يحصلون حقائق تلك الكلمات، ولو طالبتهم بتحقيقها لم يكن عندهم إلا الرجوع إلى تقليد أسلافهم.

وهذا موجود في منطق اليونان وإلهياتهم، وكلام أهل الكلام من هذه الأمة وغيرهم، يتكلم رأس الطائفة كأرسطو مثلا بكلام، وأمثاله من اليونان بكلام، وأبي الهذيل والنظام وأمثالهما من متكلمة أهل الإسلام بكلام، ويبقى ذلك الكلام دائرا في الأتباع، يدرسونه كما يدرس المؤمنون كلام الله، وأكثر من يتكلم به لا يفهمه.

وكلما كانت العبارة أبعد عن الفهم كانوا لها أشد تعظيما، وهذا حال الأمم الضالة، كلما كان الشيء مجهولا كانوا أشد له تعظيما، كما يعظم الرافضة المنتظر، الذي ليس لهم منه حس ولا خبر، ولا وقعوا له على عين ولا أثر.

وكذلك تعظيم الجهال من المتصوفة ونحوهم للغوث وخاتم الأولياء، ونحو ذلك مما لا يعرفون له حقيقة.

التالي السابق


الخدمات العلمية