صفحة جزء
الدليل الثاني والثلاثون

أن يقال: القول بتقديم غير النصوص النبوية عليها، من عقل أو كشف أو غير ذلك، يوجب أن لا يستدل بكلام الله ورسوله على شيء من المسائل العلمية، ولا يصدق بشيء من أخبار الرسول لكون الرسول أخبر به، ولا يستفاد من أخبار الله ورسوله هدى ولا معرفة بشيء من الحقائق، بل ذلك مستلزم لعدم الإيمان بالله ورسوله، وذلك متضمن للكفر والنفاق والزندقة والإلحاد، وهو معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام، كما أنه في نفسه قول فاسد متناقض في صريح العقل.

وهذا لازم لكل من سلك هذه الطريق، كما يجد ذلك من اعتبره، وذلك لأنه إذا جوز أن يكون ما أخبر الله به ورسوله، وبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أمته من القرآن والحديث، وما فيه من ذكر صفات الله تعالى، وصفات ملائكته وعرشه، والجنة والنار والأنبياء وأممهم، وغير ذلك مما قصه الله في كتابه، أو أمر به من التوحيد [ ص: 321 ] والعبادات والأخلاق، ونهى عنه من الشرك والظلم والفواحش وغير ذلك، إذا جوز المجوز أن يكون في الأدلة العقلية القطعية، التي يجب اتباعها وتقديمها عليه عند التعارض، ما يناقض مدلول ذلك ومفهومه ومقتضاه، لم يمكنه أن يعرف ثبوت شيء مما أخبر به الرسول، إن لم يعلم انتفاء المعارض المذكور، وهو لا يمكنه العلم بانتفاء هذا المعارض إن لم يعلم بدليل آخر عقلي ثبوت ما أخبر به الرسول، وإلا فإذا لم يعلم بدليل عقلي ثبوته، وليس معه ما يدل على ثبوته إلا أخبار الله ورسوله - وهذا عنده مما يجوز أن يعارضه عقلي تقدم عليه - فلا طريق له إلى العلم بانتفاء المعارضات العقلية، إلا أن يحيط علما بكل ما يخطر ببال بني آدم، مما يظن أنه دليل عقلي.

وهذا أمر لا ينضبط، وليس له حد، فإنه لا يزال يخطر لبني آدم من الخواطر، ويقع لهم من الآراء والاعتقادات، ما يظنونه دلائل عقلية، وهذه تتولد مع بني آدم كما يتولد الوسواس وحديث النفس، فإذا جوز أن يكون فيها ما هو قاطع عقلي معارض للنصوص مستحق للتقديم عليها، لم يمكنه الجزم بانتفاء هذا المعارض أبدا، فلا يمكنه الجزم بشيء مما أخبر به الرسول - بمجرد إخباره - أبدا، فلا يؤمن بشيء مما أخبر به الرسول، لكون الرسول أخبر به أبدا، ولا يستفيد من خبر الله ورسوله علما ولا هدى، بل ولا يؤمن بشيء من الغيب الذي أخبر به الرسول إذا لم يعلم ثبوته بعقله أبدا.

وحقيقة هذا سلب الإيمان برسالة الرسول وعدم تصديقه. ثم إن لم يقم عنده المعارض المقدم بقي لا مصدقا بما جاء به الرسول ولا مكذبا به [ ص: 322 ] وهذا كفر باتفاق أهل الملل، وبالاضطرار من دين الإسلام. وإن قام عنده المعارض المقدم كان مكذبا للرسول، فهذا في الكفر الذي هو جهل مركب، وذلك في الكفر الذي هو جهل بسيط.

ويتناول كلا منهما قوله تعالى: ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا [سورة الفرقان: 27 31] .

وقال تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون [سورة الأنعام: 112-113] وأمثال ذلك.

ولهذا كان الأصل الفاسد مستلزما للزندقة والإلحاد في آيات الله وأسمائه، فمن طرده أداه إلى الكفر والنفاق والإلحاد، ومن لم يطرده تناقض وفارق المعقول الصريح، وظهر ما في قوله من التناقض والفساد.

ومن هذا الباب دخلت الملاحدة والقرامطة الباطنية على كل فرقة من [ ص: 323 ] الطوائف الذين وافقوهم على بعض هذا الأصل، حتى صار من استجاب لهم إلى بعضه دعوه إلى الباقي إن أمكنت الدعوة، وإلا رضوا منه بما أدخلوه فيه من الإلحاد، فإن هذا الأصل متناقض معارض لدين جميع الرسل صلوات الله عليهم وسلامه.

وقد رأيت كتابا لبعض أئمة الباطنية سماه "الأقاليد الملكوتية" سلك فيه هذا السبيل، وصار يناظر كل فريق بنحو من هذا الدليل، فإنهم وافقوه على تأويل السمعيات، ووافقوه على نفي ما يسمى تشبيها بوجه من الوجوه فصار من أثبت شيئا من الأسماء والصفات، كاسم (الموجود) و (الحي) و (العليم) و (القدير) ونحو ذلك يقول له: هذا فيه تشبيه، لأن الحي ينقسم إلى: قديم ومحدث، والموجود ينقسم: إلى قديم ومحدث، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، فيلزم التركيب وهو التجسيم، ويلزم التشبيه، فإنه إذا كان هذا موجودا [وهذا موجودا] اشتبها واشتركا في مسمى الوجود، وهذا تشبيه، وإذا كان أحد الموجودين واجبا بنفسه، صار مشاركا لغيره في مسمى الوجود ومتميزا عنه بالوجوب، وما به الامتياز غير ما به الاشتراك، فيكون الواجب بنفسه مركبا مما به الاشتراك وما به الامتياز، والمركب محدث أو ممكن، لأنه مفتقر إلى جزئه، وجزؤه غيره، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه، فساق من سلم له الأصول الفاسدة إلى نفي الوجود الواجب الذي يعلم ثبوته بضرورة عقل كل عاقل، فأورد على [ ص: 324 ] نفسه أنك إذا قلت: ليس بموجود ولا حي ولا ميت كان هذا تشبيها بالمعدوم أيضا، فقال: لا أقول لا هذا ولا هذا، فأورد على نفسه أنك قد قررت في المنطق أنه إذا اختلفت قضيتان بالسلب والإيجاب، لزم من صدق إحداهما كذب الأخرى، فإن صدق أنه موجود، كذب أنه ليس بموجود، وإن صدق أنه ليس بموجود، كذب أنه موجود، ولا بد لك بذلك من إحداهما، فأجاب بأني لا أقول لا هذا ولا هذا، فلا أقول: موجود ولا ليس بموجود، ولا معدوم ولا ليس بمعدوم.

فهذا منتهى كلام الملاحدة، وقد حكوا مثل هذا عن الحلاج وأشباهه من أهل الحلول والاتحاد، وأنهم لا يثبتونه ولا ينفونه، ولا يحبونه ولا يبغضونه.

فيقال لهذا الضال: كما أن الجمع بين النقيضين ممتنع، فرفع النقيضين أيضا ممتنع، فإذا امتنع أن يكون موجودا ليس بموجود، امتنع أن لا يكون موجودا ولا غير موجود، فقد وقعت في شر مما فررت منه.

التالي السابق


الخدمات العلمية