بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
والمعتزلة الذين جمعوا التجهم والقدر كان مبدأ انتشارهم وظهورهم في أثناء المائة الثانية، وإن كان ابتداع مذهب القدرية حدث في أثناء المائة الأولى. ثم بعد ذلك تغلظ ذلك، وظهر في كثير من الناس من مذهب الصابئة والمجوس ما [ ص: 549 ] هو من أعظم الكفر. وازداد ذلك حتى ظهرت حقائقه في القرامطة، والباطنية، ونحوهم من الملاحدة، وحتى ظهر الشرك الصريح بعبادة غير الله تعالى، وصار بعض هذه البدع المضلة يتلون بها كثير من المنتسبين -في أكثر [أحوالهم]- إلى ما عليه أهل السنة والجماعة، لظهور أصحابها وانتشارها، لأنهم وفيها من نصر ذلك بالحجج والجدال والسيف والقتال، كما وقع في الإسلام من ذلك وقائع كثيرة يعلم بعضها من له اطلاع على ما ورخ من الحوادث في أيام الإسلام.

والإمام أحمد ذكر أن الجهم فر إلى نظير قول زنادقة النصارى، فإن أولئك يقولون بالحلول (الخاص في المسيح، والجهمية يقولون بالحلول) العام المطلق، وهو أنه في كل [ ص: 550 ] مكان، لكن لا يستقرون على قدم في ذلك. فتارة يقولون: هو في كل مكان. وتارة يقولون: ليس في مكان أصلا، ولا هو داخل العالم، ولا خارجه، وقد يطلقون الأول لفظا، ويريدون الثاني من جهة المعنى، لنفور القلوب عن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه، فإن فساد هذا معلوم في بداية العقول، فيطلقون للعامة أنه بكل مكان، لأن هذا إقرار بشيء في الجملة، ولكن مقصود نظارهم هو النفي العام، والجهم وأئمتهم كانوا يأتون بألفاظ مجملة، ومقصوده بالجميع أنه ليس على العرش، كقوله: هو على العرش كما هو تحت الثرى، لا يختص بمكان دون مكان. فإن هذا يقال لمن هو موجود في هذه الأمكنة كلها، ويقال لمن ليس في شيء منها، وكثير منهم من الاتحادية وغيرهم يصرحون بنقيض النفي حقيقة، ويقولون: إن ذاته موجودة في كل مكان، بل يقول [ ص: 551 ] من يقول منهم إنه عين الموجودات، [وأن] وجودها نفس وجوده. وقد يقولون: إنه روح العالم، والعالم صورته، فإنهم في الحلول العام بمنزلة النصارى في الحلول الخاص. وقد بسطنا الكلام على أقوال هؤلاء الاتحادية منهم في غير هذا الموضع.

التالي السابق


الخدمات العلمية