بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وأما التأويل الثاني: وهو أن يكون المراد من الصورة الصفة والمعنى أن يظهر لهم من بطش الله وشدة بأسه ما لم يألفوه ولم يعتادوه من معاملة الله تعالى، ثم يأتيهم بعد ذلك أنواع الرحمة والكرامة على الوجه الذي اعتادوه وألفوه.

فهذا أفسد من الذي قبله، وأكثر الوجوه التي أبطل بها ذلك يبطل بها هذا، ولهذا خصائص ويظهر ذلك بوجوه.

أحدها: أن تفسير الصورة بمجرد الصفة فاسد كما قدمناه، وبينا أنه حيث دل لفظ الصورة على صفة قائمة بالموصوف أو على صفة قائمة بالذهن واللسان فلا بد مع ذلك أن يدل على الصورة الخارجية وإن دل على الصورة الذهنية [ ص: 101 ]

الوجه الثاني: أن إظهار الشدة في تسمية ذلك صفة كإظهار النعمة وكإظهار الملك؛ إذ جميع ذلك عبارة عن خلق شيء من الأجسام وإظهاره، فتسمية هذا صفة دون ما تقدم من الملك والإحسان تحكم باطل.

الوجه الثالث: أن الناس ما زالوا يألفون أن الله تعالى يبتليهم بالسراء والضراء، فدعوى أن أحدهما مألوف دون الآخر باطل.

الوجه الرابع: أن الله إذا أظهر عذابه وشدته لم يجز الامتناع من السجود له في هذه الحال، ولا يجوز إنكار ربوبيته حتى يقول الأنبياء والمؤمنون: نعوذ بالله منك، وينكرون أن يكون هو ربهم.

الوجه الخامس: أن السجود في حال إظهار الشدة أولى من السجود في حال إظهار النعمة؛ ولهذا كانت الصلاة عند إظهار الآيات مثل الكسوف والخسوف مشروعة باتفاق المسلمين، وهي أطول الصلوات وأكثرها قدرا وصفة.

[ ص: 102 ] وأما النعمة ففي سجود الشكر نزاع وأيضا فإن الجنة لا سجود فيها، وهي دار النعيم، فكيف يقال: إنهم امتنعوا عن السجود له عند الشدة، ولم يسجدوا له إلا عند النعمة.

الوجه السادس: أن هذه الحال قبل مرورهم على الصراط، وقبل ظهور المؤمن من المنافق، وإنما يكون النعيم والعذاب والشدة والكرامة بعد ذلك إذا مروا على الصراط، وتميز السعداء من الأشقياء.

الوجه السابع: أنه قد أخبر في الحديث أن المشركين الذين عبدوا مع الله إلها آخر ومن أشرك بالله من أهل الكتاب قد صاروا إلى العذاب، وبعد ذلك يأتي المسلمين ربهم في غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفونها، فلم يظهر الشدة والبطش والعذاب [ ص: 103 ] إلا للكفار من المشركين وأهل الكتاب دون المسلمين.

الوجه الثامن: أن في نفس الأحاديث أنه إذا سجد له المسلمون لم يتمكن من السجود إلا المؤمنون الذين كانوا يسجدون في الدنيا من تلقاء أنفسهم، وأما المنافقون فلا يستطيعون السجود.

وفي أحاديث أخر أنهم بعد هذا يعطون الأنوار على قدر أعمالهم المنافقون والمؤمنون، وإن كانت أنوار المنافقين تطفأ بعد ذلك، ثم يمرون على الصراط، فناج مسلم، وهو الذي ينجو بلا أذى، وناج مخدوش، وهو الذي يصيبه من لفحها، ومكدوش في نار جهنم وهم المعذبون.

فلم يكن العذاب والشدة إلا بعد هذا كله حين المرور على الصراط، فكيف يقال: إن إتيانه أولا في غير صورته التي يعرفون هو إتيان عذابه وبأسه ولم يأت منه شيء؟!

الوجه التاسع: أن هؤلاء يتأولون كشفه عن ساقه بأنه إظهار الشدة، وفي نفس هذه الأحاديث أنه إذا أتاهم في الصورة التي يعرفون يكشف لهم عن ساقه فيسجدون له، فإذا تأولوا مجيئه في الصورة التي يعرفون على إظهار رحمته وكرامته كان هذا من [ ص: 104 ] التحريف والتناقض في تفسير الكتاب والسنة.

الوجه العاشر: أنه ليس فيما ذكروه إلا أنه يجيء بعض مخلوقاته، إما التي تسر وإما التي تضر، ومن المعلوم أن الله لا يوصف بنفس المخلوقات بل بكونها ليست صفات له أظهر من كونها ليست صورة له.

فقول القائل: يأتيهم الله في صورته التي يعرفون أو التي لا يعرفون، أي: في صفته التي يعرفون أو التي لا يعرفون، ثم تأويل ذلك بمجيء بعض ما يخلقه من الضراء والسراء من أفسد الكلام، فإن النعم والنقم ليست من صفات الله التي يوصف بها، وإنما يوصف بأنه يخلقها ويحدثها ويفعلها، فلا يصح أن يكون مجيئها مجيء الله في صفته.

الوجه الحادي عشر: أن الناس تنازعوا في نفس الخلق والإحداث والتكوين، هل هو من صفات الله تعالى أم لا؟ وهذا المؤسس وأصحابه مع المعتزلة يقولون: إن الخلق هو المخلوق ليس ذلك صفة لله بحال، فإذا كان نفس التكوين ليس من صفاته عندهم فكيف يكون المخلوق المكون من [ ص: 105 ] صفاته؟!

التالي السابق


الخدمات العلمية