بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الرابع عشر: أن هذه الألفاظ كلها مصرحة بأن الله تعالى هو الآتي، وهي في ذلك موافقة لدلالة القرآن، مفسرة له؛ حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأحاديث بأنهم يرون ربهم كما [ ص: 107 ] يرون الشمس صحوا ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر صحوا ليس دونه سحاب، جوابا لهم لما سألوه«: هل نرى ربنا يوم القيامة؟» وخبر مبتدأ فإنه كان يحدثهم بهذا الحديث مرات متعددة، ثم وصف هذه الرؤية، فأخبر أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد: «لتتبع كل أمة ما كانت تعبد» وأخبر باتباع المشركين لما كانوا يعبدونه، ثم قال: «وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعم، أنت ربنا، فيتبعونه».

وفي الحديث الآخر يقال لهم: «هل بينكم وبينه علامة فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة».

وفي الحديث الآخر: «ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول: من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: حتى ننظر إليك، فيتجلى لهم يضحك، قال: فينطلق بهم و [ ص: 108 ] يتبعونه».

وفي الآخر قال: «يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياما أربعين سنة، شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء، قال: وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي، ثم ينادي مناد».

وإذا كانت الأحاديث مصرحة بمجيء الرب نفسه تصريحا يعلمه الخاص والعام، ويزيل كل شبهة، علم أن هذه التحريفات تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم، لا تصدر إلا من جاهل بما أخبر به أو منافق ليس بمؤمن، فأما من آمن به، وعلم ما جاء به، فلا يكون إلا مصدقا بمضمونها.

الوجه الخامس عشر: أن مضمون أقاويل الجهمية أنه يعبد غير الله في الدنيا والآخرة، وهذا من جملة شركهم، فإنهم دخلوا في الشرك من وجوه، منها: إثباتهم خصائص الربوبية لغير الله حتى جعلوه يدعي الربوبية، ويحاسب العباد، ويسجدون له.

ومن الناس من يذكر لهذا الخبر تأويلا، فمن أعظمها كفرا وضلالا تأويل الاتحادية والحلولية الذين يقولون: إن الله تعالى هو الوجود، أو يقولون: إنه حال في الوجود، أو ظاهر فيه، ويزعمون أن المخلوقات كلها مظاهر الرب ومتجلياته، بمعنى [ ص: 109 ] أن ذاته هي الظاهرة في المخلوقات، ويحتجون على ذلك بهذا الحديث، فهم مع تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته يجعلون الخاص عاما في مثل هذا الحديث.

وفي مثل قوله: «كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به» ومثل قوله: «لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله».

التالي السابق


الخدمات العلمية