بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
قال القاضي أبو يعلى بعد أن ذكر حديث ابن عباس بطرقه وألفاظه مفتتحا له بحديث حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، وذكر حديث الحكم بن أبان، عن عكرمة، وذكر حديث أم الطفيل، ثم قال: واعلم أنها رؤيا منام؛ لأن أم الطفيل قد صرحت بذلك في خبرها، وحديث ابن عباس أكثر ألفاظه مطلقة، قال: وقد نقل في بعضها صريح بذكر المنام فيما حدثنا أبو القاسم عبد العزيز قال: أخبرني أبو بكر أحمد بن جعفر بن مالك في الإجازة [ ص: 230 ] قال: وقرأته على أبي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني ربي الليلة في أحسن صورة -يعني في المنام- فقال لي يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: لا، قال: فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي».

وقد قال القاضي في آخر كتابه في فصل جمل الصفات التي ذكرها: «وما روي في حديث أم الطفيل وابن عباس من الصفات التي رآه عليها في ليلة الإسراء» فقوله هنا: ليلة الإسراء تناقض منه؛ فإنه قد نص أن الإسراء كان يقظة، وأن الرؤية التي كانت في ليلة الإسراء غير هذه الرؤية التي في المنام، وأيضا فهذا الحديث الذي احتج به هو في الحقيقة [ ص: 231 ] حديث معاذ كما تقدم من كلام ابن خزيمة، وإنما وهم فيه أبو قلابة فقال: ابن عباس، وإنما هو ابن عائش، وليس هذا هو حديث قتادة عن عكرمة، فإن ذلك ليس فيه هذا، لكن أحمد قد جعل الجميع حديثا واحدا في الأصل، ولا ريب أن قتادة كان عنده هذا عن عكرمة، يطابق لفظهما لفظ حديث أم الطفيل، وإن كان فيه زيادات، وهو حديث الحكم بن أبان عن عكرمة، رواه ابن خزيمة محتجا به، فقال: حدثنا محمد بن عيسى، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، حدثني محمد بن إسحاق.

[ ص: 232 ] ورواه أبو بكر الخلال في السنة، حدثنا يزيد بن جمهور، حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير العنبري، حدثني أبي، حدثنا هارون بن محمد، عن محمد بن إسحاق.

ورواه ابن بطة في الإبانة [ ص: 233 ] قال: حدثنا أحمد بن محمد الباغندي، حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، عن عبد الله بن أبي [ ص: 234 ] سلمة أن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بعث إلى عبد الله بن العباس رضي الله عنهما فسأله: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فأرسل إليه عبد الله بن عباس أن نعم، فرد عليه عبد الله بن عمر رسوله: أن كيف رآه؟ فأرسل إليه «أنه رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب، على كرسي من ذهب، يحمله أربعة من الملائكة، ملك في صورة رجل، وملك في صورة ثور، وملك في صورة نسر، وملك في صورة أسد» زاد ابن بطة بالإسناد عن ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة [ ص: 235 ] عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أمية بن أبي الصلت:


رجل وثور تحت رجل يمينه والنسر للأخرى وليث مرصد

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق»
وهذا أيضا رواه ابن [ ص: 236 ] خزيمة محتجا به من غير وجه في مسألة العرش وحملته.

وروى الدارقطني هذه الألفاظ من طرق، فقوله: «في روضة خضراء دونه فراش من ذهب» مثل قوله في حديث أم أبي الطفيل: «قدماه في الخضر على وجهه فراش من ذهب» وقوله في لفظ حديث أم الطفيل: «في صورة شاب ذي وفرة» وهذا يناسب قوله في حديث ابن عباس: «شابا جعدا قططا» لكن في هذا زيادة «الأمرد .. والحلة الخضراء» وفي حديث أم الطفيل زيادة «في رجليه نعلان من ذهب» وفي حديث ابن عباس الآخر «على كرسي من ذهب» وأما ذكر الحملة الأربعة فهؤلاء في أحاديث أخر في اليقظة، فهذا مما يحتج به لما ذكره أحمد من أن حديث عكرمة عن ابن عباس أصله أصل حديث أم الطفيل، والله أعلم بحقيقة ذلك؛ فإن أحاديث ابن عباس المشهورة عنه في أنه رآه بفؤاده مرتين إنما كان ذلك بمكة، فإنه ذكره في تفسير سورة النجم، وهي مكية باتفاق العلماء، وما روته أم الطفيل ومعاذ إنما هو [ ص: 237 ] بالمدينة، فحديث عكرمة عن ابن عباس يشبه ألفاظ حديث أم الطفيل، يؤيد ذلك أن الأسانيد المتواترة عن ابن عباس إنما فيها إخبار أنه رآه بفؤاده، وأنه قال ذلك في تفسير القرآن، فلو كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بلفظه عن رؤية ليلة المعراج لم نحتج إلى ذلك، ولكان هذا هو الذي يعتمد عليه دون ما تأوله من القرآن؛ ولهذا لم يثبت الإمام أحمد -رحمه الله- إلا ما ثبت عن ابن عباس من رؤيته بفؤاده، ومن رواية هذه الأحاديث التي جاءت على الوجه التي جاءت عليها، وذلك يدفع قول من أطلق نفي الرؤية، ولا يدفع قول من نفى رؤية البصر كما جمع بينهما.

وقد يقال: إن حديث عكرمة عن ابن عباس هو تفسيره للرؤية التي بفؤاده، التي كانت بمكة، لكن هذه الزيادات التي في حديث عكرمة لا تؤخذ بمجرد تأويل القرآن، بل يحتاج إلى توقيف، وكذلك الزيادة التي في حديث مسألة ابن عمر لابن عباس.

[ ص: 238 ] وقد تبين بما ذكرناه أن الحديث الذي فيه «أتاني ربي في أحسن صورة ووضع يده بين كتفي إنما كان في المنام بالمدينة، ولم يكن ذلك ليلة المعراج، كما يظنه كثير من الناس، وكنت مرة بمجلس فيه طوائف من أصناف العلماء في مجلس ابتداء تدريس لشيخ الحنفية، وجرى ذكر هذا الحديث، فظنوا أنه كان ليلة المعراج، فقلت: هذا لم يكن ليلة المعراج، فإن هذا كان بالمدينة كما جاء مصرحا به، والمعراج إنما كان بمكة، كما قال تعالى: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى [الإسراء: 1] وهذا مما تواترت به الأحاديث، واتفق عليه أهل العلم، أن المعراج الذي ذكره الله تعالى في القرآن، والذي فيه فرض الصلوات الخمس إنما كان بمكة، ولم يكن بعد الهجرة، ونفس ما في الحديث بين ذلك، فإنه ذكر فيه اختصام الملأ الأعلى في المشي على الأقدام إلى الجمعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وهذا إنما شرع في المدينة؛ إذ لم تشرع الجمعة بمكة، وهذا مما لم يرتب فيه العلماء، وإنما وقع ذلك في أحاديث ابن عباس الثابتة عنه كحديث عكرمة ونحوه؛ لأن ابن عباس قد ثبت عنه أنه كان يثبت رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه بفؤاده في مكة كما ذكر ذلك [ ص: 239 ] في تفسير سورة النجم وهي مكية باتفاق العلماء.

قال عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب النقض على المريسي ومتبعيه قال: (وروى المعارض عن شاذان، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دخلت على ربي في جنة عدن شابا جعدا في ثوبين أخضرين» قال: وليس هذا من الحديث الذي يجب على العلماء نشره وإذاعته في أيدي الصبيان، فإن كان منكرا عند المعارض فكيف يستنكره مرة ثم يثبته أخرى فيفسره تفسيرا أنكر من الحديث، والله أعلم بهذا الحديث وبعلته، غير أني أستنكره جدا؛ لأنه يعارضه حديث أبي ذر أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: «نور أنى أراه» ويعارضه قول عائشة رضي الله عنها: «من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، وتلت لا تدركه الأبصار وهو يدرك [ ص: 240 ] الأبصار [الأنعام: 103] فهذا هو الوجه عندنا فيه والتأويل، والله أعلم. لا ما ادعيت أيها المعارض أن تفسيره: «إني دخلت على ربي في جنة عدن» كقول الناس: «أتيناك ربنا شعثا غبرا من كل فج عميق لتغفر لنا ذنوبنا» هذا تفسير محال لا يشبه ما شبهت؛ لأن في روايتك أنه قال: «رأيته شابا جعدا في ثوبين أخضرين» ويقول أولئك: «أتيناك ربنا شعثا غبرا» أي: قصدنا إليك نرجو عفوك ومغفرتك، ولم يقولوا: أتيناك فرأيناك شابا جعدا في ثوبين أخضرين لتغفر لنا، هؤلاء قصدوا الثواب والمغفرة ولم يصفوا الذي قصدوا إليه بما في حديثك من الحلية والكسوة والمعاينة، فلفظ هذا الحديث بخلاف ما فسرت وتفسيرك أنكر من نفس الحديث، فافهم وأقصر عن شبه هذا الحديث فإن الخطأ كفر، وأرى الصواب فيه مصروفا عنك.

التالي السابق


الخدمات العلمية