بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 427 ] فيقال: اعلم أن كلامه في هذا الفصل وإن كان فيه من لبس الحق بالباطل ما فيه فهو أقرب ما ذكره؛ وذلك أنه جعل المراد بالنفس هو الذات، وهذا هو الصواب؛ فإن طائفة من متأخري أهل الإثبات جعلوا النفس في هذه النصوص صفة لله زائدة على ذاته لما سمعوا إدخال المتقدمين لها في ذكر الصفات، ولم يكن مقصود المتقدمين ذلك، وإنما قصدهم الرد على من ينكر ذلك من الجهمية، وزعموا أن ذلك هو ظاهر النصوص، وليس الأمر كذلك، وقد صرح أئمة السنة بأن المراد بالنفس هو الذات، وكلامهم كله على ذلك كما في كلام الإمام أحمد فيما خرجه من الرد على الجهمية.

قال: «ثم إن الجهمي ادعى أمرا آخر، فقال: أخبرونا عن القرآن هو شيء؟ قلنا: نعم هو شيء، قال: إن الله خالق كل شيء، فلم لا يكون القرآن مع الأشياء المخلوقة وقد أقررتم أنه شيء؟».

فلعمري لقد ادعى أمرا أمكنه فيه الدعوى، ولبس على [ ص: 428 ] الناس بما ادعى، فقلنا: إن الله تبارك وتعالى لم يسم كلامه في القرآن شيئا، إنما سمى شيئا الذي كان بقوله، ألم تسمع إلى قوله: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [النحل: 40] فالشيء ليس هو قوله إنما الشيء الذي كان بقوله، وقال في آية أخرى: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [يس: 82] فالشيء هو أمره، إنما الشيء الذي كان بأمره».

قال: ومن الأعلام والدلالات أنه لا يعني بكلامه مع الأشياء المخلوقة قول الله جل ثناؤه للريح التي أرسلها على عاد تدمر كل شيء بأمر ربها [الأحقاف: 25] وقد أتت تلك الريح على أشياء لم تدمرها: منازلهم ومساكنهم [ ص: 429 ] والجبال التي كانت بحضرتهم قد أتت عليها تلك الريح ولم تدمرها، وقد قال تعالى إنها: تدمر كل شيء بأمر ربها [سورة الأحقاف، الآية: 25] فكذلك إذا قال: الله خالق كل شيء فلا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة، وقال تعالى لملكة سبأ: وأوتيت من كل شيء [النمل: 23] وقد ملك سليمان شيئا لم تؤته، فكذلك إذا قال: خالق كل شيء لا يعني به كلامه مع الأشياء المخلوقة.

[ ص: 430 ] وقال الله تعالى لموسى صلى الله عليه وسلم: واصطنعتك لنفسي [طه: 41] وقال: ويحذركم الله نفسه [آل عمران 28 - 30] وقال تعالى: كتب ربكم على نفسه الرحمة [الأنعام: 54] وقال عيسى: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك [المائدة: 116] وقال: كل نفس ذائقة الموت [آل عمران: 185] فقد عرف من عقل عن الله تعالى أنه لا يعني نفسه مع الأنفس التي تذوق الموت، وقد ذكر الله كل نفس، فكذلك إذا قال: خالق كل شيء لا يعني نفسه، ولا علمه، ولا كلامه، مع الأشياء المخلوقة، ففي هذا دلالة وبيان لمن عقل عن الله عز وجل.

وهذا من كلامه يبين أن مسمى لفظ النفس عنده هي ذات الله تعالى، أخبر أنها لا تدخل في عموم قوله تعالى: خالق كل شيء كما لم يدخل في عموم قوله تعالى: كل نفس [ ص: 431 ] ذائقة الموت [سورة آل عمران: 185] مع إخبار أن له نفسا كما تلاه من الآيات، ومعلوم أن قوله: كل نفس ليس المراد به صفة من صفات الإنسان، بل المراد به هو نفسه، فعلم أن قوله تعالى: تعلم ما في نفسي ونظائر ذلك ليس هو صفة للرب، بل هو الرب نفسه.

التالي السابق


الخدمات العلمية