بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
والكلام على هذا من وجوه:

الأول: أنه قد ذكر في القسم الأول من هذا الكتاب (وهو الأدلة الدالة على نفي الجسم والحيز) لما ادعى أن هذه السورة حجة له على نفي الجسمية والجهة «أن هذه السورة يجب أن تكون من المحكمات لا من المتشابهات؛ لأنه تعالى [ ص: 489 ] جعلها جوابا عن سؤال السائل، وأنزلها عند الحاجة».

يعني: لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ماهية ربه ونعته وصفته «فانتظر الجواب من الله تعالى فأنزل الله تعالى هذه السورة».

قال: «وذلك يقتضي كونها من المحكمات لا من المتشابهات، وإذا ثبت هذا وجب الجزم بأن كل مذهب يخالف هذه السورة كان باطلا» ثم إنه في القسم الثاني الذي جعله في تأويل المتشابهات من الآي والأخبار ذكرها من المتشابه الذي قد تأوله، وذلك يقتضي أنه لا يجوز الاستدلال بها في باب صفات الله تعالى؛ لأن الاستدلال لا يجوز بالمتشابه بل يجب عنده إما تأويله وإما [ ص: 491 ] تفويضه، وهذا تناقض بين.

فيقال له: لا يخلو إما أن تكون السورة محكمة أو متشابهة، فإن كان الأول، بطل ما ذكرته من التأويل هنا وبطل دعواك أنها من المتشابه.

وإن كان الثاني، بطل ما ذكرته هناك من الاستدلال بها على مذهبك.

والتحقيق أن ما ذكره لنفسه في الموضعين باطل، وما ذكره عليه حق؛ فإن السورة محكمة لا ريب فيها، كما ذكره أولا، وهي دالة على نقيض مذهبه، ولا ريب في ذلك كما ذكروه، ولكن يعلم أن هؤلاء القوم كما قال الله تعالى: لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك [الذاريات: 8 - 9] مختلفون في الكتاب، ويحتجون به إذا ظنوا أنه لهم، ويردونه إذا كان عليهم، قد جعلوا [ ص: 492 ] القرآن عضين، يقول بعضهم لبعض: «اذهبوا إلى القرآن والحديث إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا .

يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا [النساء: 60 - 61] ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين [النور: 47] وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون [النور: 48] وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين [النور: 49] يستمسكون بالمتشابه من القول، ويدعون المحكم، يتركون النصوص المحكمة من الكتاب والسنة التي لا ريب في معناها، ويدعون اتباع القرآن والحديث بما يدعونه من الافتراء على معانيه، وهذا من أعظم اتباع المتشابه.

فإن قيل: إنما ذكرها في المتشابه لأجل أحد القولين وهو تفسير الصمد بأنه الذي لا جوف له، وهو لا يختار إلا التفسير الأخير، وهو أنه السيد المصمود إليه في الحوائج.

فيقال: إن كان القولان متعارضين وأحدهما هو الصحيح [ ص: 493 ] فكان الواجب ذكر القول الآخر من باب المعارضة.

ثم الجواب عنه: لا تكون السورة بذلك محكمة ومتشابهة جميعا حتى تذكر في القسمين.

الوجه الثاني: أن هذا التفسير ثابت عن الصحابة والتابعين، وروي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أثبت مما ذكره.

التالي السابق


الخدمات العلمية