بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 568 ] الوجه الرابع عشر: قوله: «سلمنا أن الصمد في أصل اللغة المصمت الذي لا يدخل فيه شيء غيره، ولا ينفصل عنه شيء، إلا أنا نقول: قد دللنا على أنه لا يمكن ثبوت هذا المعنى في حق الله».

يقال له: قد تقدم الكلام على جميع ما ذكرته وتبين لكل عاقل فهم ما ذكرناه: أن الذي ذكرته من الباطل الذي يعلم بطلانه بالعقل الصريح، وبينا أن العقل يدل على خلاف قوله، وقد أحال على ما تقدم فأحلنا على ما ذكرنا هناك.

الوجه الخامس عشر: أن يقال: كل ما هو قائم بنفسه مباين لغيره، فإما أن يكون أجوف أو يكون صمدا مصمتا، كما أنه إما أن يكون عالما وإما أن يكون جاهلا، وإما أن يكون سميعا بصيرا وإما أن يكون أصم أعمى، وهذا قد تقدم تقريره، والعقل الصريح يعلم أنه لا يمكن خلو الموجود القائم بنفسه عن هذين الوصفين.

الوجه السادس عشر: أن الشيء القائم بنفسه إما أن يكون بحيث يقبل التفريق والتفكيك، أو يكون بحيث لا يقبل ذلك، فإن كان الثاني فهو الصمد الحقيقي، وإن كان الأول فليس هو صمدا حقيقيا، وإن قيل له: صمد باعتبار أنه غير متفرق، ولا يمكن [ ص: 569 ] تفريقه إلا بكلفة؛ ولهذا قال سبحانه: الله الصمد بصيغة الحصر، أي: هو الصمد في الحقيقة وغيره وإن سمي صمدا فليس ذلك الوصف كاملا فيه، وقال: الله أحد ولم يقل: «الأحد» ومعلوم أن وصفه بالاسم المعرفة أبلغ من الاسم النكرة، فكيف يجوز أن يقال: الصمدية له مجازا والأحدية له حقيقة؟!

الوجه السابع عشر: أن الله تعالى ذكر في هذه السورة هذين الاسمين: الأحد والصمد، ولم يذكرهما في القرآن إلا في هذه السورة التي تعدل ثلث القرآن فنفى بهما عنه التركيب الذي هو التجسيم المنتفي عنه، ونفى عنه التمثيل الذي هو التشبيه المنفي عنه، فكانت هذه السورة أحسن البيان فيما يجب نفيه عن الله تعالى من التشبيه والتجسيم.

وقد قدمنا غير مرة أن لفظ التشبيه فيه إجمال كثير، وأنه ما من طائفة إلا وتجعل من أثبت شيئا: مشبها، وذلك أن كل موجودين فلا بد أن يكون بينهما نوع مشابهة، ولو من بعض الوجوه البعيدة، ورفع ذلك من كل وجه رفع للوجود.

ولهذا ذكر هذا المؤسس إجماع المسلمين على ثبوت مثل [ ص: 570 ] هذا التشبيه، وبينا الفرق بين لفظ الكفؤ والمثل ولفظ الشبه، فهو سبحانه أخبر أنه أحد، وأنه لم يكن له كفوا أحد، فكان هذا أيضا محكما في تنزيهه عن المثيل بعبارة تامة؛ حيث لم يكن شيء من الموجودات مكافئا له بوجه من الوجوه، كما بيناه فيما مضى، وأنه يجب نفي المثل والكفؤ عنه من كل وجه.

وأن هذا هو معنى الأحد؛ إذ لو أريد بالأحد ما لا يماثله من جميع الوجوه لكان عامة المخلوقات تسمى أحدا، ولم يكن في هذا فائدة؛ لأن أحدا لا يعتقد أن لله مثلا من جميع الوجوه، بل الأحد الذي لا كفؤ له من جميع الوجوه، ولا يلزم نفي المشابهة من بعض الوجوه كالوجود والعلم والقدرة والحياة وغير ذلك، وكذلك التركيب والتجسيم يجب تنزيهه [ ص: 571 ] عن أن يكون مركبا مجسما ركبه مركب، أو أن يكون بحيث يقبل التفريق والتفصيل. واسمه الصمد ينفي هذا عنه.

وأما ما يسميه بعضهم تركيبا وهو ثبوت المعاني المتميزة في أنفسها فهذا أمر لا بد منه لكل موجود، فنفيه نفي للوجود ولواجب الوجود، فكان اسمه الصمد مستلزما ثبوت هذا المعنى الذي هو الاجتماع، نافيا ذلك المعنى الذي هو التركيب والتجسيم المنفي عنه، فكان صحة معنى هذه السورة معلوما بالعقل الصريح، ولولا أنا قدمنا أصل هذا الكلام في الحجج العقلية لبسطناه هنا، وقد بسطناه أيضا في جواب المعارضات المصرية.

التالي السابق


الخدمات العلمية