بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
فصل

قال الرازي: (الفصل السابع في الحجاب) قال الله تعالى: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [المطففين: 15]. قالوا: والحجاب لا يعقل إلا في الأجسام، وتمسكوا أيضا بأخبار كثيرة.

الخبر الأول: ما روى صاحب شرح السنة في باب الرد على الجهمية، عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، ولكنه يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل [ ص: 77 ] النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه نور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».

قال المصنف: هذا حديث أخرجه الشيخان، وقوله: [ ص: 78 ] يخفض القسط ويرفعه، أراد به أنه يراعي العدل في أعمال العباد، كما قال تعالى: وما ننزله إلا بقدر معلوم [الحجر: 21].

الخبر الثاني: ما يروى في الكتب المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن لله سبعين حجابا من نور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدركه بصره». [ ص: 79 ]

الخبر الثالث: روي في تفسير قوله تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [يونس: 26]. أنه تعالى يرفع الحجاب فينظرون إلى وجهه تعالى. واعلم أن الكلام في الآية هو أن أصحابنا قالوا: إنه لا يجوز أن يقال: إنه تعالى محتجب عن الخلق، ولا يجوز أن يقال: إنه محجوب عنهم، لأن لفظ الاحتجاب مشعر بالقوة والقدرة، والحجب [ ص: 80 ] يشعر بالعجز والذلة، يقال: احتجب السلطان عن عبيده، ويقال: فلان حجب عن الدخول على السلطان، وحقيقة الحجاب بالنسبة إلى الله تعالى محال، لأنه عبارة عن الجسم المتوسط بين جسمين آخرين، بل هذا محمول عندنا على أن الله تعالى لا يمنع وصول آثار إحسانه وفضله إلى الإنسان.

وأما الخبر الأول، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «حجابه النور» فاعلم أن كل شيء يفرض مؤثرا في شيء آخر، فكل كمال يحصل للأثر فهو مستفاد من المؤثر، لا شك أن ثبوت ذلك الكمال لذلك المؤثر أولى من ثبوته في ذلك الأثر وأقوى وأكمل، ولا شك بأن معطي الكمالات بأسرها هو الحق تعالى، فكان كل كمال الممكنات بالنسبة إلى كمال الله تعالى كالعدم.

ولا شك أن جملة الممكنات ليست إلا عالم الأجسام وعالم الأرواح، ولا شك أن جملة كمالات عالم [ ص: 81 ] العناصر بالنسبة إلى كمال عالم الأفلاك كالعدم، ثم كمال عالم الروح بالنسبة إلى كمال كل العناصر كالعدم، ثم كمال الشخص المعين بالنسبة إلى كمال هذا الروح كالعدم، فيظهر هذا أن كمال الإنسان المعين [ ص: 82 ] بالنسبة إلى كمال الله تعالى أولى من أن يقال: إنه كالعدم، ولا شك أن روح الإنسان وحده لا تطيق قبول ذلك الكمال، ولا يمكنه مطالعته، بل الأرواح البشرية تضمحل في أدنى مرتبة من مراتب تلك الكمالات، فهذا هو المراد بقوله: «لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره من خلقه.

التالي السابق


الخدمات العلمية