بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
قال أبو الحسن الأشعري في مسألة العرش: "ومما يؤكد لكم أن الله مستو على عرشه دون الأشياء كلها ما نقله أهل الرواية من قوله: «ينزل ربنا كل ليلة» وقد تقدم ذكر [ ص: 183 ] لفظه إلى أن قال: وقد قال سبحانه وتعالى: تعرج الملائكة والروح إليه [المعارج: 4]. وقال سبحانه: يخافون ربهم من فوقهم [النحل: 50]. وقال سبحانه وتعالى: ثم استوى إلى السماء [فصلت: 11]. وقال تعالى: ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا [الفرقان: 59]. وقال تعالى: ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع [السجدة: 4]. قال: وكل هذا يدل على أنه في السماء مستو على عرشه. والسماء بإجماع الناس ليست في الأرض، فدل على أنه جل وعلا منفرد بوحدانيته، مستو على عرشه، كما وصف نفسه، وقال سبحانه وتعالى: وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر: 22]. وقال: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام [البقرة: 210]. وقال سبحانه: ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى [ ص: 184 ] ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى إلى قوله: لقد رأى من آيات ربه الكبرى [النجم: 8-18]. إلى أن قال: وقال سبحانه: يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي [آل عمران: 55]. وقال سبحانه: وما قتلوه وما صلبوه [النساء: 157]. وقال سبحانه وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه [النساء: 157-158]. قال: "وأجمعت الأمة على أن الله رفع عيسى صلى الله عليه وسلم إلى السماء".

وهذا كله تصريح بأن الرفع والصعود إلى الله نفسه. وقال أيضا: وقال الله تعالى: ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق [ ص: 185 ] [الأنعام: 162]. وقال: ولو ترى إذ وقفوا على ربهم [الأنعام: 30]. وقال: ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم [السجدة: 12]. وقال تعالى: وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة [الكهف: 48]. قال: وكل هذا يدل على أنه ليس في خلقه ولا خلقه فيه، وأنه سبحانه مستو على عرشه، جل وعز وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، جل عما يقول الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة، ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية، إذ كان كلامهم يؤول إلى التعطيل، وجميع أوصافهم تدل على النفي في التأويل، ويريدون بذلك [ ص: 186 ] –زعموا- التنزيه ونفي التشبيه، فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل.

قال: وروت العلماء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد لا تزول قدماه من بين يدي رب العالمين حتى يسأله عن ثلاث» وروت العلماء أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأمة سوداء، فقال: يا رسول الله، إني أريد أن أعتقها في كفارة، فهل يجوز عتقها؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أين الله؟» قالت: في السماء. وأومأت بيدها إلى فوق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «أعتقها فإنها مؤمنة» قال: وهذا يدل على أن [ ص: 187 ] الله على عرشه فوق السماء.

وقد أثبت أبو الحسن الأشعري ما هو أبلغ من ذلك من قرب الله تعالى إلى خلقه، وحكاه عن أهل السنة والجماعة، فقال في كتاب المقالات في حكاية قول جملة أصحاب [ ص: 188 ] الحديث وأهل السنة.

قال: "جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة -وذكر ما نقلناه عنه قبل هذا وفيه- ويقرون أن الله تعالى يجيء يوم القيامة كما قال تعالى: وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر: 22]. وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال: [ ص: 189 ] ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ق: 16]. ثم قال: "وبكل ما ذكرناه من قولهم نقول".

قال في الإبانة: وجملة قولنا أنا نقر بالله تبارك وتعالى، وذكر نحوا مما ذكره في المقالات إلى أن قال: ونقول: إن الله يجيء يوم القيامة كما قال: وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر: 22]. وأن الله تعالى يقرب من عباده كيف يشاء كما قال: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ق: 16]. وكما قال: ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى [النجم: 8-9]. وله كلام غير هذا، وهو صريح في أن قربه إلى خلقه عنده من الصفات الفعلية، حيث قال: كيف يشاء.

والقرب بالعلم والقدرة لا يجوز تعليقه بالمشيئة، لأن علمه وقدرته من لوازم ذاته، فهذا من اتفاق عامة الصفاتية [ ص: 190 ] على إثبات قرب الخلق إلى الله عز وجل وقربه إليهم، وهذا الذي قاله الأشعري، وحكاه عن أهل السنة، تلقاه عن زكريا بن يحيى الساجي وغيره من أئمة البصريين، وهذا اللفظ الذي ذكره في القرب محفوظ عن حماد بن زيد إمام أهل السنة في عصر مالك، [ ص: 191 ] والثوري، والأوزاعي.

قال الخلال في كتاب السنة: أنا جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا أحمد بن محمد المقري، حدثنا سليمان بن [ ص: 192 ] حرب قال: سأل بشر بن السري حماد بن زيد فقال: يا أبا إسماعيل، الحديث الذي جاء «ينزل الله إلى السماء يتجول من مكان إلى مكان» فسكت حماد ثم قال: هو في مكان يقرب من خلقه كيف يشاء، وهذا يذكر في موضعه، وأما حديث إدنائه إليه ووضع كنفه عليه، فهو أظهر من هذا، ولم ينازع أحد من الصفاتية المتقدمين أصلا، كما لم ينازعوا [ ص: 193 ] في أن الله تعالى فوق العرش، وقد نص الأئمة على إقراره، قال الخلال في كتاب السنة: باب (يضع كنفه على عبده تبارك وتعالى) أخبرني محمد بن أبي هارون، ومحمد بن جعفر، أن أبا الحارث حدثهم قال: قلت لأبي عبد الله: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يدني العبد يوم القيامة فيضع عليه كنفه»؟ قال: هكذا يقول: «يدنيه ويضع كنفه عليه» كما قال: «ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟».

قال الخلال: أنبأنا إبراهيم الحربي قال: قوله: «فيضع عليه [ ص: 194 ] كنفه» يقول: ناحيته، قال إبراهيم، أخبرني أبو نصر، عن الأصمعي، يقال: أنا في كنف بني فلان، أي في ناحيتهم، وأنا في ظلك، أي قربك. قال إبراهيم: وأنبأنا عمرو، عن أبيه قال: كنف (جانب)، وأنشدنا: وأرحب له كنفا ... قال: [ ص: 195 ] وأنشدني أبو عبد الله النحوي:


بأكناف الحجاز هوى دفين يؤرقني إذا هدت العيون

التالي السابق


الخدمات العلمية