بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
قلت: وفي القرآن مواضع أخرى تدل على هذا المعنى. [ ص: 224 ]

الأول: مثل قوله تعالى: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون [النحل: 44]. فإنه يدل على أنه يبين للناس جميع ما نزل إليهم، فيكون جميع المنزل مبينا عنه، يمكن معرفته وفهمه.

وقوله تعالى: ولعلهم يتفكرون [النحل: 44]. يدل على ذلك، فإن التفكر طريق إلى العلم، ما لا يمكن العلم به لا يؤمر بالتفكير فيه.

الثاني: قوله تعالى: فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور [الطلاق: 10-11]. وما لا يفهم ولا يعلم معناه لا يخرج أحدا من ظلمة إلى نور.

ومثله قوله تعالى: هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرءوف رحيم [الحديد: 9].

الثالث: قوله تعالى: الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد [إبراهيم: 1]. فأخبر أنه أنزل إليه الكتاب لهذا الإخراج، [ ص: 225 ] والإخراج من الظلمات إلى النور لا يكون إلا بما يفهم ويعلم معناه، وما لا يفهم لا يحصل به خروج من الظلمة إلى النور.

الرابع: قوله تعالى: يدبروا القول [المؤمنون: 68]. وإنما يمكن تدبر القول إذا أمكن معرفته وفهمه.

الخامس: قوله تعالى: الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [يوسف: 1-2]. وإنما يكون مبينا -سواء أريد مبينا في نفسه، أو أنه مبين لغيره- إذا كان مما يمكن معرفته وفهمه ومعرفة معناه.

السادس: قوله تعالى: وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [الأعراف: 203].

السابع: قوله تعالى: هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [الأعراف: 203]. وقوله تعالى: قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها [الأنعام: 104]. والبصائر جمع بصيرة، بمعنى الحجج، [ ص: 226 ] والبرهان، والبيان، واحدتها بصيرة.

وقال الزجاج: "معنى البصائر ظهور الشيء وبيانه".

وقال الجوهري: "البصيرة الحجة والاستبصار في الشيء".

قوله تعالى: بل الإنسان على نفسه بصيرة [القيامة: 14]. ولا حجة ولا برهان ولا بيان ولا ظاهر إلا إذا أمكن فهم معرفته، وما لا يمكن أحدا من الخلق فهمه يمتنع أن يكون كذلك.

الثامن: قوله تعالى: ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون [يونس: 42]. وقوله تعالى: ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء [البقرة: 171]. وقوله تعالى: ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم [محمد: 16]. وقوله تعالى: [ ص: 227 ] ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون [الأنفال: 21]. وهذا كله ذم لمن سمع الكلام ولم يفهم معناه، ولم يفهمه، وإنما يستحق الذم إذا كان الكلام مما يمكن فهمه وفقهه، وما لا يكون كذلك لم يستحق به الذم.

التاسع: قوله تعالى: الله نزل أحسن الحديث [الزمر: 23]. وقوله تعالى: نحن نقص عليك أحسن القصص [يوسف: 3]. وإنما يكون أحسن الحديث وأحسن القصص إذا كان مما يفقه ويعقل، وما كان يمتنع فهم معناه كان ما يفهم ويعلم أحسن وأنفع منه.

العاشر: قوله تعالى: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [القمر: 17]. في غير موضع.

قال بعض السلف: "هل من طالب علم فيعان عليه" [ ص: 228 ] وإنما يكون متيسرا للذكر إذا أمكن فهمه ليذكر معناه، ويذكر الناس بما ذكر به، وما لا يفقه من الكلام ولا يمكن فقهه لا يمكن أن يتذكر به أحد، وليس مذكرا فضلا عن أن يكون متيسرا للذكر.

الحادي عشر: قوله تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم [إبراهيم: 4]. فجعل الرسول بلسان قومه ليبين لهم ما أرسل به، ومعلوم أنه لو خاطبهم بلسان آخر وترجمه لهم لحصل المقصود، فكان ذلك أتم في النعمة، فكيف يخاطبهم بكلام لا هو يفهم معناه، ولا هم يفهمونه، ولا يمكن أحدا فهمه، وهل الإرسال بمثل هذا إلا من أعظم المعائب التي يجب تنزيه الرب -سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا- عنها، فإنها لا تليق بآحاد الناس سبحانه وتعالى.

الثاني عشر: قوله تعالى: فهل على الرسل إلا البلاغ المبين [النحل: 35]. وقوله تعالى: [ ص: 229 ] وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين [النور: 54]. ومعلوم أن البلاغ المبين لا يحصل بكلام لا يمكن أحدا فهمه، بل لا يمكن فهمه للرسول ولا للمرسل إليه، تعالى الله عن مثل ذلك.

الثالث عشر: قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه [البقرة: 213]. ومعلوم أن حكم الله بالكتاب أو حكم الكتاب بين المختلفين لا يمكن إلا إذا عرفوا ما حكم به من الكتاب، وما تضمنه الكتاب من الحكم، وذلك إنما يمكن إذا كان مما يمكن فهم معناه، وتصور المراد به، دون ما يمتنع ذلك منه.

الرابع عشر: قوله تعالى: تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه [النحل: 63-64]. وبيان ذلك بالكتاب إنما يكون إذا كان فهم الكتاب ممكنا، فأما إذا تعذر فهمه فيمتنع أن يحصل به بيان ما اختلف فيه الناس.

الخامس عشر: قوله تعالى: وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم [آل عمران: 101]. ومعلوم أن تلاوة آيات الله إنما [ ص: 230 ] تكون مانعة من الكفر إذا تبين بها الإيمان من الكفر، والحق من الباطل، وهذا إنما يكون بالكلام إذا كان مما يمكن فهمه ومعرفته، دون ما يتعذر ذلك فيه.

السادس عشر: قوله تعالى: المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم [الأعراف: 1-3]. وقوله تعالى: اتبع ما أوحي إليك من ربك [الأنعام: 106]. ومعلوم أن اتباع ما أمرهم الله تعالى من الكتاب والحكمة إنما يمكن بعد فهمه وتصور معناه، وما كان من الكلام لا يمكن أحدا فهمه لم يمكن اتباعه، بل كان الذي يسمعه كالذي لا يسمع إلا دعاء ونداء، وإنما الاتباع لمعاني الكلام.

السابع عشر: قوله تعالى: ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي [فصلت: 44]. قال المفسرون: لو جعله قرآنا أعجميا لأنكروا ذلك، وقالوا: هلا بينت آياته بلغة العرب لنفهمه؟! أقرآن عجمي ورسول عربي؟! فقد بين سبحانه وتعالى أنه لو جعله أعجميا لأنكروه، فجعله عربيا ليفهم معناه، وليندفع مثل هذا القول، ومعلوم أنه لو كان أعجميا لأمكنهم التوصل إلى فهمه بأن يترجم لهم مترجم، إما أن يسمعه من الرسول ويترجمه، أو يحفظوه هم أعجميا ثم يترجمه لهم، كما أن من العجم من يحفظ القرآن عربيا ولا يفهم، ويترجم له، وأما إذا كان عربيا لا يمكن أحدا أن يفهمهم إلا الرسول [ ص: 231 ] ولا المرسل إليهم، فإنكار هذا أعظم من إنكار كونه أعجميا، وإذا كان الله تعالى قد بين أنه لا يفعل الأول، فهو أن لا يفعل هذا أولى وأحرى.

الثامن عشر: قوله تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ص: 29]. ومعلوم أن تدبر آياته وتذكر أولي الألباب إنما يكون مع إمكان فهمه ومعرفة معناه، وأما بدون ذلك فهو متعذر.

التاسع عشر: أن القرآن آيات، والآية هي العلامة والدلالة، وإنما تكون علامة ودلالة إذا دلت على شيء وأعلمت به، وما كان دليلا ومعلما وعلامة فإنه يمكن أن يستدل به ويستعلم به ما دل عليه، وما لم يمكن ذلك فليس بدلالة ولا كلام، فما لا يمكن أن يفهم منه معنى ولا يستدل به عليه فليس في آيات الله، ولا يكون في كلامه الذي أنزله.

العشرون: قوله تعالى: قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين [ ص: 232 ] يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام [المائدة: 15-16]. وإنما يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام إذا فهموه، وما لم يفهم من الكلام لا يهدى به إلى شيء، لا سيما إذا كان لا يفهمه أحد.

الحادي والعشرون: قوله تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور [الشورى: 52-53]. ومعلوم أن الروح الذي أوحاه من الكتاب والإيمان ما يهتدي به من يهتدي من عباده إلا إذا علموا ذلك، فإذا كان الكتاب لا يفهم لم يهتد أحد بكلام ولا يفهمه أحد، وكذلك قوله تعالى: وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [الشورى: 52]. فإن هدايته إلى ذلك بالكلام الذي سمع منه، فإذا كان ما يبلغه هو من الكتاب والسنة لا يفهمه لا هو ولا غيره، ولا سبيل لأحد إلى فهمه، لم يمكن أن يهدي به أحدا إلى صراط مستقيم.

الثاني والعشرون: قوله تعالى: أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ ص: 233 ] [هود: 1]. وما لا يمكن فهمه لم يحكم ولم يفصل.

الثالث والعشرون: قوله تعالى: تلك آيات الكتاب الحكيم [يونس: 1]. وقال تعالى: تلك آيات القرآن وكتاب مبين [النمل: 1]. وقال تعالى: تلك آيات الكتاب وقرآن مبين [الحجر: 1]. وقال تعالى: الم تلك آيات الكتاب الحكيم [لقمان: 1-2]. وقال تعالى: ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم [آل عمران: 58]. والحكيم فعيل، سواء كان بمعنى الفاعل وهو الحاكم، أو بمعنى المفعول وهو المحكم، فلا يكون حاكما ولا محكما إلا إذا كان له معنى يمكن فهمه ومعرفته، وإلا فاللفظ الذي لا يمكن أحدا فهم معناه ليس بمحكم ولا حاكم ولا محكم.

الرابع والعشرون: قوله تعالى: فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم [آل عمران: 61]. والذي جاءه هو القرآن، وإنما يكون علما إذا كان متضمنا للعلم، فيعلم به ما بين فيه، واللفظ الذي لا يمكن أحدا فهم معناه ليس بعلم، ولا يدل على علم، [ ص: 234 ] وليس من العلم بسبيل، وإذا كان لا يعلم معناه إلا أنه كان من علمه الذي استأثر به لم يكن علما لغيره، ولم يكن قد جاء غيره علما، ولا علم أحد به علما.

الخامس والعشرون: قوله تعالى: لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه [النساء: 166]. بين أنه أنزل القرآن بعلمه، أي: متضمنا لعلم فيه يراد فيه علم، ليس المراد بذلك، وهو يعلم، فإن كل الموجودات يعلمها، والمقصود مدح القرآن وبيان اشتماله على علم الله تعالى، وإذا كان كذلك دل على أن ما فيه من العلم لم يستأثر الله تعالى به، بل أنزله إلى عباده، وعلمهم إياه، وهو من علمه الذي قال فيه: ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض [البقرة: 255]. وهذا لا يكون إلا إذا أمكن فهم معناه، وإلا فاللفظ الذي لا يمكن فهم معناه لا علم فيه لأحد، ومثل هذا قوله تعالى: فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو [هود: 14].

السادس والعشرون: قوله تعالى: وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى [طه: 133]. أي بيان ما في الصحف الأولى، وإنما يكون بيانا لما في الصحف إذ بين ذلك، ودل عليه، وعرف به، وهذا إنما يكون بالكلام الذي [ ص: 235 ] يمكن فهمه ومعرفته ومعرفة معناه، وما كان ذلك ممتنعا فيه لم تكن فيه بينة ولا بيان، ولا للصحف ولا لغيرها، ومثل هذه الأدلة في القرآن كثيرة يطول تتبعها.

وهذه أربعون وجها منها، وعند التأمل هي أكثر من ذلك، والوجه الواحد يتضمن وجها أو وجوها، والآيات المتماثلة جعلت وجها، وكل منها دليل مستقل، فتكون الدلائل المذكورة أكثر من مائة دليل، وما لم يذكر كثيرا أيضا. [ ص: 236 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية