بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الثاني: أنه يجوز أمر الناس بأعمال ينتفعون بها، وإن لم يعرفوا حكمتها، كما يأمر المؤدب والوالد والطبيب.

وأما مخاطبة الناس بكلام لا سبيل لهم إلى فهمه، فهذا لا يفعله أحد من العقلاء.

وقوله: "إن الطاعة فيما لم تعرف حكمته أتم" ممنوع، بل ما عرفت حكمته التي يحبها الله تعالى لأجل تلك الحكمة التي يحبها الله تعالى فهذا أتم، لأن الذي ذكره متوجه فيما إذا كانت الحكمة غرضا دنيويا، مثل حفظ الأموال [ ص: 332 ] والأنفس، وقهر العدو ونحو ذلك، فهنا قد لا يفعله إلا لذلك الغرض الدنيوي، وهذا مذموم ولكن الحكمة المتعلقة بالخالق، وأنه يحب الفعل ويرضاه، يعرفها أهل العلم والإيمان، وأما القدرية المجبرة والنافية فلا يعرفونها، كما قد بسط في موضعه.

ومعلوم أنه إذا صلى وسجد لما في السجود من الخضوع لله والتقرب إليه لم يكن رمي الجمار أفضل من هذا، وكذلك إذا تصدق ليحسن إلى الخلق ابتغاء وجه ربه الأعلى، لا يريد منهم جزاء ولا شكورا، وأما قوله: "إن الإنسان إذا وقف على المعنى، وأحاط به، سقط وقعه عن القلب".

فهذا ممنوع، ولكن هذا يختلف باختلاف المعاني، فإن كان ذلك المعنى مما لا يعظمه القلب سقط وقعه عن القلب، وإن كان المعنى مما يعظمه القلب كان تعظيمه للكلام إذا فهم معناه بحسب عظم ذلك المعنى، ولهذا كل من كان للقرآن أفهم، [ ص: 333 ] ولمعانيه أعرف، كان أشد تعظيما له من الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني. بل كتاب سيبويه في النحو إذا فهمه الإنسان كان لسيبويه في قلبه من الحرمة ما لم يكن قبل ذلك، والله تعالى قد أمر العباد بتدبر القرآن والتفكير فيه وتفهمه، فكيف يقال: إنهم إذا فعلوا ذلك سقط وقعه عن قلوبهم، مع أن الأمر بخلاف ذلك، وكلما تصور العبد ما في القرآن من الخبر عن الله تعالى وملائكته وأنبيائه وأعدائه وثوابه وعقابه، حصل له من التعظيم والمحبة والخشية ما لا يعلمه إلا الله، قال تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا [الأنفال: 2]. أفترى الإيمان يزداد بمجرد لفظ لا يفقه معناه، وإذا فقه معناه لا يزداد الإيمان بذلك؟!

وقال تعالى: ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء [فصلت: 44]. فلو كان الهدى والشفاء يحصل بمجرد اللفظ الذي لا يفقه معناه، لحصل به إذا كان أعجميا بطريق الأولى، بل الهدى [ ص: 334 ] والشفاء إذا فهم معناه أتم وأكمل بلا ريب.

وقد قال تعالى: ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم [محمد: 16]. فذم الذين لا يعلمون ما قال، ووصف الآخرين بأنهم أوتوا العلم، وقد قال تعالى: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [الزمر: 9]. وأما قوله: إنه إذا لم يقف على المقصود مع معرفته بأن المتكلم بذلك أحكم الحاكمين فإنه يبقى قلبه ملتفتا إليه أبدا، ومتفكرا فيه أبدا.

يقال: هذا صحيح إذا كان يرجو فهمه، وكان فهمه ممكنا عنده، أما إذا جزم بأن أحدا من الخلق لا يفهمه صار ذلك مأيوسا منه، فلا يلتفت قلبه إلى ما يطمع فيه، ولا يتفكر فيه، بل تبقى همته مصروفة إلى لفظه دون معناه، واللفظ تابع [ ص: 335 ] للمعنى، فإذا لم يكن ثم معنى يطلب يبقى لفظ مجرد فأفضى به إلى ما يفسد القلب من التشدق والتفيهق وقسوة القلب وغفلته عن الله.

قوله: ولباب التكليف اشتغال السر بذكر الله تعالى، والتفكر في كلامه، فلا يبعد أن يقال: إن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبدا مصلحة كبيرة عظيمة له، فيقال: هذا إنما يكون فيما إذا كان فهمه ممكنا، أما إذا جزم العبد بأنه لا سبيل لأحد إلى فهمه، فلا يلتفت ذهنه إلى المعنى، ولا يشتغل به خاطره، ولا يشتغل سره بذكر الله تعالى والتفكير في كلامه من هذه الجهة، وإنما يتفكر في كلامه إذا رجا فهمه، أو فهمه وطلب زيادة الفهم، فأما الكلام الذي يجزم بأنه لا يفهمه أحد فلا يتفكر فيه، واشتغال السر بذكر الله تعالى هو بحسب معرفة العبد، فإذا كان باب المعرفة مسدودا لم يشتغل السر إلا باللفظ المجرد، والقلب لا يزكو بذلك ولا يصلح به، ولا يعبد الله ويحبه بمجرد لفظ لا يعرف أحد معناه.

ولهذا يوجد الذين قد يئسوا من معرفة المعنى قد أعرضوا بقلوبهم عن ذلك، لا يذكرونه، ولا يتفكرون فيه، كإعراض [ ص: 336 ] الإنسان عما يجده مكتوبا بغير الخط الذي يعرفه، فإنه لما لم يعرف المكتوب فإنه يجعل الورق غلافا لغيره ووقاية له، كما يفعل الناس في الرقوق التي لا يدرون ما كتب فيها، وقد يكون فيها من الكلام ما لو عرفوه لم يفعلوا به ذلك كالكتب المعربة.

وعدم فهم اللفظ كعدم فهم الخط، كلاهما يسقط حرمة الكلام من القلب، بخلاف ما إذا كان فهمه ممكنا، فإنه إذا اعتقد عظمته تعلقت همته بطلب فهمه، واشتغل بذكر ربه والتفكر في كلامه، فانتفع بذلك، ولهذا يفكر الإنسان فيما أشكل عليه، فتكون فكرته فيه سببا لجمع همته، وإقباله على الله تعالى وعلى عبادته، واشتغاله بذلك عما تهواه الأنفس ومن الأهواء الرديئة.

ثم إذا فهم بعض الحق وجد فيه حلاوة، وذلك يدعوه إلى طلب الباقي، قال تعالى: أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [محمد: 24]. وقال: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ص: 29]. وقال تعالى: أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب [الرعد: 19]. فإن كون الكلام حقا أو باطلا هو [ ص: 337 ] متعلق بمعانيه لا بألفاظه الدالة على معانيه.

فأما اللفظ الذي لا يعرف له معنى فلا يقال فيه حق ولا باطل.

التالي السابق


الخدمات العلمية