بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وكذلك طائفة تأولت الشمس والقمر والكواكب بأن المراد بها ما بينه بعض الفلاسفة من العقل والنفس.

وطائفة تأولت جبريل بأنه خيال يكون في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الله تعالى يقول: إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين ثم قال وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين [التكوير: 19-23]. فأخبر أنه ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين. وقال: إن الرسول رآه بالأفق المبين.

وقال في الآية الأخرى: علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى [ ص: 371 ] [النجم: 5-9]. إلى قوله تعالى: ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى [النجم: 13-18].

فهذا الخبر فيه من الإحكام والإتقان والبيان الذي يمنع أن يكون جبريل في باطن النبي ما يطول وصفه، وهذا ظن كثير من الفلاسفة، ومن دخل معهم ممن يدعي التحقيق والمكاشفة من الصوفية، ويدعي أنه أعلم من الأنبياء، ومن هؤلاء من يظن أن فرعون مات على الإيمان، وأنه لا يعذب في الآخرة، ومنهم من يقول: إن غرقه كان ليغتسل غسل الإسلام، ويحتجون بقوله تعالى: فأوردهم النار [هود: 98]. قالوا: فأوردهم، وما دخل.

وهذه الآية اشتبهت على هؤلاء وعلى غيرهم، حتى إنه لما ذهبنا إلى مصر، وكان في شيوخهم من يقول هذا، وصار لهم جاه، سأل بعض ولاة الأمر لمن هو قاضي القضاة عن ذلك، فقال: ما في القرآن ما يدل على أنه كان كافرا. [ ص: 372 ]

ومعلوم أن دخول فرعون النار معلوم بالاضطرار من دين المسلمين واليهود والنصارى، والقرآن مملوء من الدلالات على ذلك، نحو من أربعين موضعا يبين عذابه في الدنيا والآخرة، وأيضا قوله: فأوردهم النار [هود: 98]. يدل على ذلك، وأيضا فإنه قال: يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم [هود: 98]. وإذا كان هو قادمهم، فما دخلوا حتى دخل قبلهم، ولو قدر أن هذه الآية لم تدل، فقد دل غيرها.

ومما اشتبه عليهم أنه قال: أدخلوا آل فرعون [غافر: 46]. قالوا: وفرعون ليس هو من آل فرعون، وهذا الاشتباه من جهلهم بلسان العرب، لا من عدم إحكام آيات الله تعالى، بل قد أحكمها. وقول القائل: آل فلان يتناول نفسه، ومن يؤول إليه، كقوله تعالى: إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين [آل عمران: 33]. وقوله تعالى: فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون [الحجر: 61-62]. وقوله تعالى: إلا آل لوط نجيناهم بسحر نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر [القمر: 34-35]. وقوله [ ص: 373 ] تعالى: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته [الحجر: 58-60].

فلوط نفسه داخل في آل لوط، وكذلك قول المصلي: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم"، وهذا اللفظ في الصحيحين، وهو أصح من غيره. [ ص: 374 ]

وقوله صلى الله عليه وسلم للحسن: «إن الصدقة لا تحل لآل محمد».

وقول عبد الله بن أبي أوفى: كان القوم إذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بصدقتهم دعا لهم، وإن أبي أتاه بصدقته فقال: «اللهم صل على [ ص: 375 ] آل أبي أوفى» وذلك أن الآل ما يؤول إلى الشخص، ولا يضاف هذا الاسم إلا إلى معظم يكون آيلا وسائسا لغيره، [ ص: 376 ] وأول من يؤول إلى الشخص هو نفسه.

وقوله تعالى: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول [الأنفال: 41]. ومعلوم أن الغنيمة ما أخذ من الكفار بالقتال، ومكاسب المسلمين بالتجارة والصناعة لا تسمى غنيمة، ولا كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه يأخذون خمس مكاسب المسلمين، وقد ظن بعضهم أنها غنيمة وخمسها، وخص بالخمس طائفة معينة، وهذا باب واسع.

وإذا عرف أن الاشتباه الإضافي قد يحصل لبعض الناس، فالكلام وإن كان في غاية البيان والإحكام، كان كل آية -وإن كانت محكمة مبينة- قد تشتبه على بعض الناس، وعلى هذا فيكون قوله تعالى: منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [آل عمران: 7]. أن الآيات المحكمات لا تشتبه على أولئك، بل هي أصل الكتاب الذي عرفوه، بل اشتباه وأخر متشابهات عليهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في المسند وغيره: «إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا، ولكن نزل يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم به فكلوه إلى عالمه». [ ص: 377 ]

فما علم الإنسان كان عليه أن يتبعه ويأتم به، فهو في حقه إمام يأتم به، وما جهل منه كالذي يشتبه عليه ولا يعرف معناه، فإنه يكله إلى عالمه، كما في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: أيها الناس، من علم علما فليقل به، ومن لم يعلمه فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم الله أعلم، وإن الله تعالى قال لنبيه: قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ص: 86]. وهذا [ ص: 378 ] التشابه لا ينفي تشابه بعض الآيات في أنفسها، فلفظ (إنا، ونحن) فيه اشتباه، لكن ذاك التشابه مقرون بالإحكام، فإن الله تعالى قد أحكم ذلك وبينه، فلم يكن كرر لفظا مما يشبه لفظا مع اختلاف تعيينهما إلا وقد بين مراده وأحكمه، بحيث صار بينا محكما مع ما فيه من الاشتباه، وذلك الاشتباه لا يمنع كونه مبينا محكما، وإن كان الراسخون في العلم يعلمون معناه وتفسيره دون غيرهم، وهذا هو التشابه المعين، وأما التشابه المطلق: فهذا عارض لبعض الناس لنقص [ ص: 379 ] فهمهم وعلمهم، والذين في قلوبهم مرض يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ولو كانوا أصحاء لابتغوا ما تبين لهم، ولم يكن فيه اشتباه فعملوا به، وما اشتبه عليهم إن أمكنهم أن يردوه إلى المبين لهم، وإلا قالوا: الله تعالى أعلم، وهذا معنى قولهم: يعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه، فإن الآيات الخبرية تتضمن عملا: محبة لله، وخوفا منه، وتوكلا عليه، ورجاء رحمته، وخوفا من عذابه، واعتبارا بما مضى ... وغير ذلك من أنواع العمل.

وكلا النوعين؛ التشابه العارض لبعض الناس، والمعين، لا يتصور أن يخلو منهما خطاب، ولو كان في غاية البيان والفصاحة، فلا خطاب أبين وأفصح من القرآن، ولكن هذا من ضرورة نقص بني آدم، فإنه ليس كل أحد يمكنه فهم كل كلام، بل سبحان من يسر القرآن للذكر كما يسره للحفظ، فيسر حفظه وفهمه أعظم مما يقع في نظائره، وإلا فالكتابان المتقدمان التوراة والإنجيل لا يحفظان ولا يفهمان عشر عشر حفظ القرآن وفهمه.

وما صنفته الناس من العلوم أقل حفظا وفهما من الكتب المنزلة، فإن العناية بها أعظم، وحرمتها في القلوب أعظم، [ ص: 380 ] وبهذا يحصل الجواب عن قول من قال: لم نزل المتشابه؟ وهذا التشابه الناشئ من نقص المستمع ونقص فهمه وعلمه، وبه يحصل الجواب على ما ذكره الرازي، من تقسيم المحكم والمتشابه، فإنه ذكر أن كل طائفة تجعل ما تذهب إليه محكما، وما يذهب إليه مخالفوها متشابها، ثم جعل هو المتشابه ما خالف الدليل العقلي، والمحكم ما لم يخالف الدليل العقلي، فجعل الإحكام هو عدم المعارض العقلي، لا صفة في الخطاب، وكونه في نفسه قد أحكم وبين وفصل مع أن المعارض العقلي لا يمكن الجزم بنفيه إذا جوز وقوعه في الجملة لا يخرجه عن كونه متشابها، ولهذا استقر أمره على أن جميع الأدلة السمعية القولية متشابهة، لا يحتج بشيء منها في العلميات، فلم يبق على قوله لهذه الآية: منه آيات محكمات هن أم الكتاب [آل عمران: 7]. معنى بحيث يرد التشابه إليها، ولكن المردود إليه هو العقلي، فما وافقه أو لم يخالفه فهو [ ص: 381 ] المحكم، وما خالفه فهو المتشابه، وهذا من أعظم الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته، ولهذا استقر قوله في هذا الكتاب على رأي الملاحدة الذين يقولون: إنه أخبر العوام بما يعلم أنه باطل، لكون عقولهم لا تقبل الحق فخاطبهم بالتجسيم مع علمه أنه باطل، وهذا مما احتج به الملاحدة على هؤلاء في المعاد، وقالوا: خاطبهم أيضا بالمعاد كما خاطبهم بالتجسيم، وهؤلاء جعلوا الفرق أن المعاد علم بالاضطرار من دين الرسول، وبسط الكلام على ذلك له موضع آخر [ ص: 382 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية