بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه السادس عشر: أن يقال: أصل الجهل والضلال والزندقة والنفاق والإلحاد والكفر والتعطيل في هذا الباب، هو ما اشتركت فيه الدهرية والجهمية من التكذيب والنفي والجحود لصفات الله تعالى بلا برهان أصلا، بل البراهين إذا أعطوها حقها أوجبت ثبوت الصفات، وهم مع اشتراكهم في هذا الأصل الفاسد، افترقوا حينئذ في المناظرة والمخاصمة، كل قوم معهم من الباطل نصيب.

وذلك أن مبدأ حدوث هذا في الإسلام هو مناظرة الجهمية للدهرية، كما ذكر الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مناظرة جهم للسمنية -وهم من الدهرية- حيث أنكروا الصانع، وإن كان [ ص: 438 ] غيرهم من فلاسفة الهند كالبراهمة لا ينكره، بل يقول العالم محدث فعله فاعل مختار، كما يحكي عنهم المتكلمون. وكذلك مناظرة المعتزلة وغيرهم لغير هؤلاء من فلاسفة الروم والفرس وغيرهم من أنواع الدهرية، وكذلك مناظرة بعضهم بعضا في تقرير الإسلام عليهم، وإحداثهم في الحجج التي سموها أصول الدين ما ظنوا أن دين الإسلام ينبني عليها. وذلك هو أصل علم الكلام الذي اتفق السلف والأئمة على ذمه وذم أصحابه وتجهيلهم، فإن كان كلام السلف والأئمة في ذم الجهمية والمتكلمين لا يحصيه إلا الله تعالى، وأصل ذلك أنهم طلبوا أن يقرروا ما لا ريب فيه عند المسلمين، من أن الله تعالى خلق السموات والأرض، وأن العالم له صانع خالق خلقه، ويردوا على من يزعم أن ذلك قديم: إما واجب بنفسه، وإما معلول علة واجبة بنفسها.

فإن «الدهرية» لهم قولان في ذلك، ولعل أكثر المتكلمين إذا ذكروا قول الدهرية لا يذكرون من الدهرية إلا من ينكر الصانع فيقول: «الدهرية» وهم الذين يقولون بقدم العالم وإنكار الصانع، وعندهم كل من آمن بالصانع فإنه يقول بحدوث العالم، وهذا كما قال طوائف من المتكلمين، كالقاضي أبي بكر بن الباقلاني: قال في «مسائل التكفير»:

«وجملة الخلاف على ضربين: خلاف مع الخارجين عن الملة المنكرين لكلمة التوحيد وإثبات النبوة -أعني نبوة محمد [ ص: 439 ] صلى الله عليه وسلم- وخلاف مع أهل القبلة المنتسبين إلى الملة. فأما الخلاف مع الخارجين عن الملة فعلى ثلاثة أضرب: خلاف مع المنكرين للصانع والقائلين بقدم العالم، وخلاف مع القائلين بحدوث العالم المثبتين للصانع المنكرين للنبوات أصلا كالبراهمة، وخلاف مع القائلين ببعض النبوات المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم». فجعل ثبوت الصانع وحدوث العالم قولا، وإنكار الصانع وقدم العالم قولا، ولم يذكر قولا ثالثا بإثبات الصانع وقدم العالم، لأن ذلك كالمتنافي عند جمهور المتكلمين فلا يجعل قولا قائما بنفسه.

وأما الرازي وأمثاله فيذكرون الدهرية أعم من هذا بحيث أدخلوا فيهم هذا القسم الذي هو قول المشائين -أرسطو وذويه- وقول غيرهم، فقال في كتاب «نهاية العقول»: «المسألة الرابعة في تفصيل الكفار، قال: الكفار إما أن يكونوا معترفين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو لا يكونوا، فإن لم يكن فإما أن يكونوا معترفين بشيء من النبوات وهم اليهود والنصارى وغيرهم، وإما أن لا يعترفوا بذلك، وهم إما أن يكونوا مثبتين للفاعل المختار وهم البراهمة، وإما أن لا يثبتوه وهم الدهرية على اختلاف أصنافهم» وكذلك قول غير هذا مثل ابن الهيصم وأمثاله قالوا: قالت الدهرية من منكري الصانع ومثبتيه: إن العالم على هيئة [ ص: 440 ] ما تراه عليه قد كان لم يزل، إلا أن من أثبت الصانع منهم زعم أنه مصنوع لم يتأخر في الوجود عن صانعه، وإليه ذهب أرسطوطاليس ومن قال بقوله، وقال أهل التوحيد: بل هو مصنوع محدث لم يكن ثم كان.

ولا ريب أن إنكار الصانع بالكلية قول «السمنية» الذين ناظرهم الجهم بن صفوان وغيرهم من الدهرية، وكطوائف غير هؤلاء من الأمم المتقدمة. وأما الدهرية اليونان أتباع أرسطو وذويه ونحوهم فهم مع كونهم دهرية يقرون بأن العالم معلول علة واجبة بنفسها، ولهذا نفق قول هؤلاء على طوائف كثيرة، وصاروا في هذه زنادقة منافقين، وادعوا علم الباطن الذي اختصوا بمعرفته، وزعموا أن ما أظهرته الشرائع لمنفعة الجمهور ونحو ذلك مما ليس هذا موضعه.

التالي السابق


الخدمات العلمية