بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
ولهذا لم يعرف عن أحد من السلف أنه عارض آية أو حديثا إلا بما يظن أنه معنى آية أو حديث آخر، سواء كان مصيبا في المعارضة أو مخطئا، فالمصيب الذي يعارض المنسوخ بالناسخ، كما كان الصحابة ومن بعدهم من العلماء يقولون في قوله تعالى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له [البقرة: 184]. دل على أن المقيم المطيق يخير بين الصيام والافتداء، وهو منسوخ بقوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ ص: 516 ] [البقرة: 185]. وهذا معلوم بالتواتر وإجماع الأمة أن الصيام واجب على المقيم القادر، لا يخير بينه وبين الافتداء كما كان في أول الأمر، وقد قال كثير من السلف: هذه الآية ليست منسوخة، وأرادوا أن فيها أحكاما غير منسوخة، كما قد يستدل بها على افتداء العاجز والمرضع والحامل، لكن الحكم الأول قد اتفقوا على نسخه، وقد يعارضون ما يفهم من آية بما يدل على نقيض ذلك المعنى، ليبين أنه لم يفرد، وقد يسمون هذا نسخا، كما عارض ابن مسعود وغيره عموم قوله تعالى في المتوفى عنها زوجها: يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [البقرة: 234]. بأن سورة الطلاق وقد سماها سورة النساء القصرى، نزلت بعد ذلك، وفيها: وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [الطلاق: 4]. وكان علي وابن عباس ومن اتبعهم رضي الله تعالى عنهم يقولون: تعتد أبعد [ ص: 517 ] الأجلين، وكان عمر وابن مسعود وغيرهما يقولون: إذا وضعت حلت، وجاءت السنة الصحيحة بذلك في قصة سبيعة الأسلمية لما توفي عنها زوجها سعد بن خولة عام حجة الوداع، ووضعت بعده بليال، وقال لها أبو السنابل بن بعكك: ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك أربعة أشهر وعشرا، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كذب أبو السنابل، حللت فانكحي» فاتفق [ ص: 518 ] عامة العلماء على اتباع السنة، وإن كان القرآن يدل على مثل ذلك، لكن القرآن قد يخفى على الأكابر، وأما السنة فصريحة لا تخفى على أحد بلغته.

وعائشة لما عارضت قوله: «إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه» عارضت ذلك بقوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى [فاطر: 18]. لم تعارضه بالمعقول وأن هذا ظلم، ووافقها على [ ص: 519 ] هذا كثير من العلماء، وبعضهم رد الحديث كما اختاره الشافعي رحمه الله تعالى في مختلف الحديث، وقال: إن عائشة روت لفظين، أحدهما يوافق هذا الحديث، وهو قوله: «إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله». [ ص: 520 ]

والثاني قوله: «إنهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها» وبعضهم تأوله على ما هو ذنب للموصي، والقول [ ص: 521 ] الآخر وهو الصحيح، وهو أنه لا منافاة بينهما، وإن هذا التعذيب ليس هو حملا لذنب لنائحة على غيرها، بل ذنبها بالنياحة باق عليها، ولا هو عقوبة للميت على نياحتها لكونه لم ينه عنها ونحو ذلك، بل هذا من نوع الألم والأذى الذي يحصل بذلك، كما يتأذى الميت بغير ذلك، كما قد بسط في مواضع.

ولهذا قيل يعذب، ولم يقل يعاقب، والعذاب يقال في [ ص: 522 ] مطلق الأذى، كما روي: «إن السفر قطعة من العذاب».

وعارضه بعضهم بقوله تعالى: وأنه هو أضحك وأبكى [النجم: 43]. كما نقل عن ابن عباس، وهؤلاء يجعلون الإضحاك والإبكاء مما يفعله الرب تعالى، كالإماتة والإحياء، فلا ينهى عنه، وهو ضعيف أيضا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد استفاضت عنه الأحاديث بالنهي عن النياحة ونحوها من البكاء، وقوله: «إن الله تعالى لا يؤاخذ على دمع العين، ولا على حزن القلب، ولكن يؤاخذ بهذا أو يرحم - وأشار إلى لسانه». [ ص: 523 ]

وقال: «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية».

وقال: «أنا بريء من الحالقة والصالقة والشاقة». [ ص: 524 ]

وقال: «إن النائحة إذا لم تتب فإنها تلبس يوم القيامة درعا من جرب وسربالا من قطران» وبايع النساء على أن لا ينحن، وهو من تأويل قوله: ولا يعصينك في معروف [ ص: 525 ] [الممتحنة: 12].

وقد ذم سبحانه وتعالى الضحك، ودعا إلى البكاء في هذه السورة التي قال تعالى فيها: وأنه هو أضحك وأبكى [النجم: 43]. بقوله تعالى: أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون [النجم: 59-60]. وكذلك لما عارضت قوله عليه السلام: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» [ ص: 526 ] تلت قوله تعالى: فإنك لا تسمع الموتى [الروم: 52]. ولما أنكرت رؤيته لربه تعالى تلت قوله تعالى: لا تدركه الأبصار [الأنعام: 103]. وقوله تعالى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب [الشورى: 51]. ولما ظنت أن القرآن يخالف ذلك نسبت الراوي إلى الغلط.

وإن كان أئمة الصحابة وجمهور علماء المسلمين على التصديق بالحديث، وأنه لا منافاة بينه وبين القرآن، فالمقصود أنه ليس من الصحابة من قال: إن القرآن أو الخبر يخالف العقل والأدلة العقلية، فالواجب أن يقول بموجب العقل والأدلة العقلية، والقرآن إما أن يعرض عنه فيصير مهجورا، أو يتصور له التأويلات التي تتضمن تحريف الكلم عن مواضعه، بل كلهم متفقون على تعظيم القرآن، وأنه ما أول [ ص: 527 ] إلا على حق، وأنه هدى وبيان وشفاء، وإن قصر فهم بعضهم عن بعض، عرف أن ذلك من نقص فهمه وعلمه، لا من نقص ما دل عليه القرآن، ولا يجعلون إيمانهم بما دل عليه القرآن موقوفا على نفي المعارض، بل قد تيقنوا على أنه لا يعارضه حق، بل كل ما عارضه فهو باطل، كشبه السوفسطائية والقرامطة التي يعارضون بها الأدلة العقلية والسمعية، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهاهم عن ضرب القرآن بعضه ببعض، فلا يجوز معارضة آية بآية للتصديق بمعنى إحداهما دون الأخرى، بل يجب الإيمان به كله، فكيف بمن عارضه بكتاب آخر؟ فكيف بمن عارض جنس الأنبياء والكتب المنزلة من السماء بما لم يأت به كتاب ألبتة؟ بل كان مضاهيا الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان، والذين جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، فهؤلاء من جنس المكذبين للرسل المشركين الذين هم أكفر من اليهود والنصارى من هذا الوجه، [ ص: 528 ] وأين هذا من قوله تعالى: المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون [الأعراف: 1-3]. وإذا قال القائل: الرسول صلى الله عليه وسلم إنما عرف صدقه بأدلة عقلية، وأنه لا بد له من الأدلة العقلية، فهذا صحيح، لكن تلك الأدلة العقلية التي بها يعرف صدق الرسل هي مما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأرشد إليها القرآن على أحسن الوجوه وأكملها.

التالي السابق


الخدمات العلمية