بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 2 ] فصل

[ ص: 3 ] المشهور بين أهل السنة والجماعة أنه لا يقال في صفات الله عز وجل "كيف"؟ ولا في أفعاله "لم"؟ وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن السلف والأئمة نفوا علمنا الآن بكيفيته كقول مالك رحمه الله: الاستواء معلوم والكيف مجهول. لم [ ص: 4 ] ينفوا أن يكون في نفس الأمر له حقيقة يعلمها هو. وتكلمنا على إمكان العلم بها عند رؤيته في الآخرة. أو غير ذلك؛ لكن كثير من الجهمية من المعتزلة ، وغيرهم ينفون أن يكون [ ص: 5 ] له ماهية، وحقيقة وراء ما علموه. وكذلك إذا قلنا لا يقال في [ ص: 6 ] أفعاله "لم"؟ فإنما نفينا السؤال بـ "لم" وذلك ينفي علم السؤال بالحكمة الغائية المقصودة بالفعل التي تصلح أن تكون جواب "لم" وهي المقرونة باللام في قول المجيب: لكذا. وهي التي تنصب على المفعول له إذا حذفت اللام بأن تكون العلة مصدرا فعلا لفاعل الفعل المعلل ومقارنة له في الزمان كما تقول فعلت هذا ابتغاء وجه الله ونحو ذلك؛ لكن اللام تقرن بها نفس الحكمة المقصودة، ونفس قصدها وطلبها، فيقال: فعلت هذا لله، ولابتغاء وجه الله. وأما مع حذف اللام فلا يكون المنصوب إلا ما يقوم بالفاعل من الباعث له كالإرادة والكراهة وما يستلزم ذلك، كما يقال: قعد عن الحرب جبنا، لأن الجبن يتضمن البغض والكراهة. وكما يقال:


وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن ذم اللئيم تكرما

[ ص: 7 ]

فإن "ادخاره" يتضمن قصد الانتفاع به. و"التكرم" يتضمن قصد صون النفس عن التأذي بشتمه.

لكن قوله: لا يقال في أفعاله "لم" لا ينفي ثبوت الحكمة التي تكون مقصودة له في نفس الأمر، ولا كونه مريدا لها قاصدا، وإن كان ذلك ينفيه من ينفيه من نفاة التعليل ومثبتيه؛ ولهذا قال بعض علماء السلف: [إن الله علم علما علمه العباد، وعلم علما لم يعلمه العباد، وإن القدر من العلم الذي لم يعلمه العباد ].

ورووا في قصة سؤال موسى [ وعيسى وعزير ربنا تبارك وتعالى عن سر القدر و ] أنه لو أراد أن يطاع لأطيع، وقد أمر [ ص: 8 ] أن يطاع وهو مع ذلك يعصى، ومضمون السؤال: لو أردت هذا لكان واقعا لأنك قادر عليه فما شئت كان، وما لم تشأ لم يكن؛ ثم قد أمرت به، والأمر يستلزم محبته وطلبه، فهلا كان المحبوب المطلوب قد أريد وقوعه؟ فأوحى الله تعالى إليهم: أن هذا سري فلا تسألوني عن سري. وأن المسيح قال للحواريين: القدر سر الله فلا تكلفوه.

والمقصود التنبيه على أن العقول تعجز عن إدراك كنه الغاية المقصودة بالأفعال، كما تعجز عن كنه إدراك حقيقة الفاعل؛ ولكن نفي الشيء غير نفي العلم به، ونفي هذه الحكمة المقصودة لظن أن ثبوتها يستلزم قيام الحوادث المستلزمة حدوثه به واستكماله بغيره المقتضي حاجته، ونحو ذلك هو نظير [نفي ] صفاته الثابتة بالفطرة والشرع والعقل لظن أن ثبوتها [ ص: 9 ] يستلزم حدوثه، أو يستلزم افتقاره إلى غيره فما يتوهمه النفاة المكذبين من المتفلسفة والمتكلمة من أن ثبوت الصفات يستلزم حدوثا وحاجة، وأن ثبوت الأفعال أو حكمها المقصودة يستلزم حدوثا وحاجة، هو من جنس واحد، وكل [ ص: 10 ] منهم يلزمه فيما أثبته أعظم مما فر منه؛ هو لم يثبت إلا هذا الموجود المحسوس بلا صانع أصلا؛ بل كلما كان أقل إثباتا كانت المحذورات فيما يثبته أعظم وأعظم؛ لأن الإثبات إذا قل قلت صفات الكمال له، وكان ما يلزمه من النقائص وما يتوهم أنه مستلزم للحدوث والفقر أعظم وأعظم، فيلزمه اجتماع هذه الأمور مع نقيضها من القدم والوجوب.

فليتدبر المؤمن العلم بهذا الأصل الجامع العظيم؛ فإنه من أعظم ما يهدي به الله تعالى إلى الصراط المستقيم.

التالي السابق


الخدمات العلمية