بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وحقيقة الأمر أن اسم "الباطنية" قد يقال في كلام الناس على صنفين: (أحدهما ): من يقول إن للكتاب والسنة باطنا يخالف ظاهرهما. فهؤلاء هم المشهورون عند الناس باسم الباطنية من القرامطة وسائر أنواع الملاحدة، وهم الذين عناهم هذا الفيلسوف.

وهؤلاء في الأصل قسمان: (قسم ) يرون ذلك في الأعمال الظاهرة: حتى في الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، وتحريم المحرمات: من الفواحش، والظلم والشرك، ونحو ذلك: فيرون أن الخطاب المبين لوجوب هذه الواجبات وتحريم المحرمات ليس هو على ظاهره المعروف عند الجمهور، ولكن لذلك أسرار وبواطن يعرفونها، كما يقولون: الصلاة معرفة أسرارنا، والصوم [ ص: 168 ] كتمان أسرارنا، والحج الزيارة إلى شيوخنا القدسيين فهؤلاء زنادقة منافقون باتفاق سلف أئمة الإسلام، ولا يخفى نفاقهم على من له بالإسلام أدنى معرفة. ثم خواصهم لا يقولون برفعها عن الخاصة، كما يقولون في الأمور العلمية؛ فإن من دفع أن يكون الخطاب العملي مرادا به هذه الأعمال فهو للخطاب العلمي أعظم دفعا. وهذا الصنف يقع في القرامطة المظهرين للرفض. ويقع في زنادقة الصوفية من الاتحادية الحلولية ويقع في غالية المتكلمة؛ لكن هؤلاء قد يدعون تخصيص الخطاب العام الموجب للصلاة والزكاة والصيام والحج -وإن كان ذلك كذبا معلوما بالاضطرار من دين الإسلام أنه باطل- لا يدعون رفع حكم الخطاب مطلقا. وأما عقلاء هذه الطائفة الباطنية مثل ابن رشد هذا وأمثاله فإنهم إنما [ ص: 169 ] يقولون بالباطن المخالف للظاهر في العلميات، وأما العمليات فيقرونها على ظاهرها. وهذا قول عقلاء الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام، مع أنهم في التزام الأعمال الشرعية مضطربون لما في قلوبهم من المرض والنفاق، وتارة يرون سقوطها عنهم أو عن بعضهم دون العامة، وابن سينا كان مضطربا في ذلك؛ لكن له عهد قد التزم فيه موافقة الشريعة، وهم في الجملة يرون موافقة الشريعة العملية أولى من مخالفته. وليس هذا موضع تفصيل مقالات الناس، ولا يكاد تفصيل الباطل ينضبط.

أما القسم الثاني: فالذين يتكلمون في الأمور الباطنة من الأعمال والعلوم؛ لكن مع قولهم إنها توافق الظاهر، ومع اتفاقهم على أن من ادعى باطنا يناقض الظاهر فهو منافق زنديق. فهؤلاء هم المشهورون بالتصوف عند الأمة، وهم في ما يتكلمون فيه من الأعمال الباطنة وعلم الباطن يستدلون على ذلك بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، كما يستدل بذلك على الأعمال الظاهرة، وذلك في علم الدين والإسلام، كما للإنسان بدن وقلب. وهؤلاء من أعظم الناس إنكارا على من [ ص: 170 ] يخالف الظاهر ممن فيه نوع تجهم -دع الباطنية الدهرية- وهم أشد إيمانا بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا من غيرهم، وأشد تعظيما للأعمال الظاهرة مع الباطنة من غيرهم.

ولكن يوجد منهم من جنس ما يوجد في بقية الطوائف من البدع والنفاق مثل من قد يرى الاستغناء بالعمل الباطن عن الظاهر، ومن يدعي أن للقرآن باطنا يخالف ظاهره، ونحو ذلك من صنوف المنافقين الزنادقة، فهؤلاء بالنسبة إلى الصوفية الذين هم مشايخ الطريقة الذين لهم في الأمة لسان صدق بالنسبة إلى المنافقين الزنادقة ومن متكلمي الفلسفة ونحوهم الموجودين في الفقهاء بالنسبة إلى الفقهاء الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدق. فكما أن أولئك الأئمة الفقهاء برءاء من بدع أهل الكلام فضلا عن بدع الفلاسفة من الباطنية ونحوهم: فكذلك المشايخ الصوفية برءاء من بدع أهل التصوف، فضلا عن [ ص: 171 ] بدع من دخل فيهم من المتفلسفة وغيرهم. فهذا أصل عظيم ينبغي معرفته.

واعتبر ذلك بما ثبت مقبولا عن أئمة المشايخ كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي [ ص: 172 ] والسري السقطي والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وعمرو بن عثمان المكي، وخلائق قبل هؤلاء من الصحابة، والتابعين ومن بعدهم من الذين ذكرهم أبو نعيم الأصبهاني في كتاب "حلية الأولياء" وذكرهم أبو الفرج [ ص: 173 ] ابن الجوزي في كتابه "صفوة الصفوة" من المتقدمين والمتأخرين.

التالي السابق


الخدمات العلمية