بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وهذا يتبين بالوجه الرابع، وهو أن يقال: هم لا ينازعون أن الموجود: إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره، والله سبحانه وتعالى قائم بنفسه، وإن نازعوا في وصف غيره بأنه قائم بنفسه [ ص: 365 ] لتنازعهم في أن القائم بنفسه هل يراد به الموجد المستغني عن المحل؟ أو المستغني عن المحل والمخصص والمكان وغير ذلك؟ لكن المقصود هنا أنه لا يعقل ما هو قائم بنفسه بمعنى أنه غير حال في محل إلا ما هو مختص بما يقولون إنه جهة وإن كان حقيقته أمرا عدميا. وما تصح عليه المحاذاة على اصطلاحهم وما هو في اصطلاحهم جسم ومتحيز وهو المعلوم في صرائح العقول. ومن قيل له: هل تعقل شيئا قائما بنفسه ليس في محل وهو مع هذا ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز، ومع هذا أنه لا يجوز أن يكون فوق غيره ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن يساره، ولا أمامه ولا وراءه "و" أنه لا يكون مجامعا له ولا مفارقا له، ولا قريبا منه ولا بعيدا عنه، ولا متصلا به ولا منفصلا عنه، ولا مماسا له ولا محايثا له، وأنه يشار إليه بأنه هنا أو هناك، ولا يشار إلى شيء منه دون شيء، ولا يرى منه شيء دون شيء، ونحو ذلك من الأوصاف السلبية التي يجب أن يوصف بها ما يقال إنه ليس بجسم ولا متحيز: لقال حاكما بصريح عقله: هذه صفة المعدوم لا الموجود. كما سمعنا ورأينا أنه يقول ذلك عامة من يذكر له ذلك من أهل العقول الصحيحة الذكية، وكما يجده العاقل في نفسه إذا تأمل هذا القول، [ ص: 366 ] وأعرض عما تلقنه من الاعتقادات السلبية، وما اعتقده من يعظمها ويعظم قائلها، واعتقاده أنهم حرروا هذه المعقولات، فإن هذه العقائد التقليدية هي التي تصد القلوب عما فطرت عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة، وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه".

ثم إن هذه المقالات السلبية لم يقل شيئا منها إمام من أئمة المسلمين، ولا نطق بها كتاب ولا سنة، والطوائف المتكلمون قد أنكرها من حذاقهم من لا يحصيه إلا الله.

فإن قيل: الاستغناء عن المحل وصف سلبي، فإذا كان القيام بالنفس وصفا سلبيا لم يدل على معنى ثبوتي وهو كونه [ ص: 367 ] متحيزا أو مجسما؟.

قال له منازعه: أولا هذا منقوض بوصف الأجسام والجواهر بأنها قائمة بنفسها غنية عن المحل، فإن هذا السلب يستلزم هذا الثبوت.

وقالوا ثانيا: نحن لم نجعل نفي السلب هو الثبوت؛ وإنما قلنا: الشيء الموجود المحكوم عليه المخبر عنه بهذا السلب هو الذي يعلم القلب أنه محكوم عليه مخبر عنه بهذا الثبوت، ونعلم أنه لا يكون هذا السلب عن أمر موجود إلا مع هذا الثبوت.

وقالوا ثالثا: المستلزم لهذا الثبوت هو الأمر الوجودي المسلوب عنه المحل، فهذا الأمر الوجودي هو الذي سموه المتحيز والجسم.

التالي السابق


الخدمات العلمية