بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وقال أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه الذي سماه "نقض عثمان بن سعيد، على المريسي الجهمي العنيد، [ ص: 605 ] فيما افترى على الله تعالى في التوحيد" قال فيه: ("باب الحد والعرش" وادعى المعارض أيضا أنه ليس له حد ولا غاية ولا نهاية ). قال: (وهذا الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته، واشتق منه أغلوطاته، وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهما إليها أحد من العالمين، فقال له قائل ممن يحاوره: قد علمت مرادك أيها الأعجمي تعني أن الله تعالى لاشيء؛ لأن الخلق كلهم علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة، وأن لا شيء ليس له حد ولا غاية ولا صفة، فالشيء أبدا موصوف لا محالة، ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية، وقولك: لا حد له. تعني أنه لا شيء.

قال أبو سعيد: (والله تعالى له حد لا يعلمه غيره، ولا [ ص: 606 ] يجوز لأحد أن يتوهم لحده غاية في نفسه، ولكن نؤمن بالحد ونكل علم ذلك إلى الله تعالى، ولمكانه أيضا حد، وهو على عرشه فوق سمواته. فهذان حدان اثنان ) قال: (وسئل ابن المبارك: بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه على العرش، بائن من خلقه. قيل: بحد؟ قال: بحد. حدثناه الحسن بن صالح البزار، عن علي بن الحسن بن شقيق، عن ابن المبارك. [ ص: 607 ] فمن ادعى أنه ليس لله حد فقد رد القرآن وادعى أنه لا شيء؛ لأن الله تعالى وصف حد مكانه في مواضع كثيرة من كتابه، فقال: الرحمن على العرش استوى [طه: 5 ] أأمنتم من في السماء [الملك: 16 ] يخافون ربهم من فوقهم [النحل: 50 ] إني متوفيك ورافعك إلي [آل عمران: 55 ] إليه يصعد الكلم الطيب [فاطر: 10 ] فهذا كله وما أشبهه شواهد ودلائل على الحد، ومن لم يعترف به فقد كفر بتنزيل الله تعالى، وجحد آيات الله تعالى؛ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله فوق عرشه فوق سمواته" وقال للأمة السوداء: "أين الله؟ قالت في السماء، [ ص: 608 ] قال اعتقها فإنها مؤمنة" فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم [إنها مؤمنة دليل على ] أنها لو لم تؤمن بأن الله في السماء لم تكن مؤمنة، وأنه لا يجوز في الرقبة المؤمنة إلا من يحد الله أنه في السماء، كما قال الله ورسوله، فحدثنا أحمد بن منيع البغدادي الأصم، [ ص: 609 ] حدثنا أبو معاوية، عن شبيب بن شيبة، عن الحسن، عن عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه: "يا حصين كم تعبد اليوم إلها؟ قال: سبعة: ستة في الأرض، وواحدا في [ ص: 610 ] السماء، قال فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء" فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الكافر إذ عرف أن إله العالمين في السماء، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم. فحصين في كفره يومئذ كان أعلم بالله الأجل من المريسي وأصحابه مع ما ينتحلون من الإسلام، إذ ميز بين الإله الخالق الذي في السماء وبين الآلهة والأصنام المخلوقة التي في الأرض. وقد اتفقت [ ص: 611 ] الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء وحدوه بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه، حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث قد عرفوه بذلك إذا حزب الصبي شيء يرفع يديه إلى ربه تعالى يدعوه في السماء دون ما سواها، فكل أحد بالله تعالى وبمكانه أعلم من الجهمية ).

قال: (ثم انتدب المعارض لتلك الصفات التي ألفها وعددها في كتابه من الوجه والسمع، والبصر، وغير ذلك. يتأولها، ويحكم على الله تعالى وعلى رسوله فيها حرفا بعد حرف، وشيئا بعد شيء بحكم بشر بن غياث المريسي، لا يعتمد فيها على إمام أقدم منه، ولا أرشد منه عنده، فاغتنمنا ذلك منه إذ صرح باسمه، وسلم فيها لحكمه، لما أن الكلمة قد اجتمعت من عامة الفقهاء في كفره، وهتوك ستره وافتضاحه في مصره، وفي سائر الأمصار الذين [ ص: 612 ] سمعوا بذكره ) وذكر الكلام في الصفات.

التالي السابق


الخدمات العلمية