بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
قلت: هذا الذي جمع به بين كلامي أحمد وأثبت الحد والجهة من ناحية العرش والتحت دون الجهات الخمس يخالف ما فسر به كلام أحمد أولا من التفسير المطابق لصريح ألفاظه؛ حيث قال: فقد نفى الحد عنه على الصفة المذكورة وهو الذي يعلمه خلقه، والموضع الذي أطلقه محمول على معنيين.

أحدهما: يقال على جهة مخصوصة وليس هو ذاهبا في الجهات بل هو خارج العالم متميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات، وهذا معنى قول أحمد: حد لا يعلمه إلا هو.

والثاني: أنه على صفة يبين بها عن غيره ويتميز، فهو تعالى فرد واحد ممتنع عن الاشتراك له في أخص صفاته، قال: وقد منعنا من إطلاق القول بالحد في غير موضع [ ص: 26 ] من كتابنا ويجب أن يجوز على الوجه الذي ذكرناه، فهذا القول الوسط من أقوال القاضي الثلاثة هو المطابق لكلام أحمد وغيره من الأئمة.

وقد قال إنه تعالى في جهة مخصوصة وليس هو ذاهبا في الجهات بل هو خارج العالم متميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات، وهذا معنى قول أحمد: حد لا يعلمه إلا هو.

ولو كان مراد أحمد رحمه الله الحد من جهة العرش فقط لكان ذلك معلوما لعباده فإنهم قد عرفوا أن حده من هذه الجهة هو العرش، فعلم أن الحد الذي لا يعلمونه مطلق لا يختص بجهة العرش.

وروى شيخ الإسلام في ذم [ ص: 27 ] الكلام ما ذكره حرب بن إسماعيل الكرماني في مسائله، قال لإسحاق بن إبراهيم [ ص: 28 ] وهو الإمام المشهور المعروف بابن راهويه: ما تقول في قوله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة [المجادلة 7] الآية؟ قال: حيث ما كنت هو أقرب إليك من حبل الوريد وهو بائن من خلقه، قلت لإسحاق: على العرش بحد؟ قال: نعم، بحد. وذكره عن ابن المبارك قال: هو على عرشه بائن من خلقه بحد، وقال حرب أيضا: قال إسحاق بن إبراهيم: لا يجوز الخوض في أمر الله تعالى كما يجوز الخوض في فعل المخلوقين؛ لقول الله تعالى: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون [الأنبياء 23]، ولا يجوز لأحد أن يتوهم على الله بصفاته وفعاله بفهم ما يجوز التفكر والنظر في أمر [ ص: 29 ] المخلوقين؛ وذلك أنه يمكن أن يكون الله عز وجل موصوفا بالنزول كل ليلة إذا مضى ثلثها إلى سماء الدنيا كما يشاء ولا يسأل كيف نزوله لأن الخالق يصنع ما يشاء كما [ ص: 30 ] يشاء.

وروى شيخ الإسلام عن محمد بن إسحاق الثقفي، سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال: دخلت يوما على طاهر بن عبد الله وأظنه عبد الله بن طاهر [ ص: 31 ] وعنده منصور بن طلحة.

فقال لي منصور: يا أبا يعقوب تقول إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة؟

قلت: ونؤمن به إذا أنت لا تؤمن أن لك ربا في السماء فلا تحتاج أن تسألني عن هذا فقال ابن طاهر: ألم أنهك عن هذا الشيخ؟ وروي عن محمد بن حاتم، سمعت [ ص: 32 ] إسحاق بن راهويه يقول: قال لي عبد الله بن طاهر: يا أبا يعقوب هذه الأحاديث التي تروونها، أو قال: ترونها في النزول ما هي؟ قال: أيها الأمير هذه الأحاديث جاءت مجيء الأحكام الحلال والحرام، ونقلها العلماء ولا يجوز أن ترد هي كما جاءت بلا كيف، فقال عبد الله بن طاهر: صدقت! ما كنت أعرف وجوهها حتى الآن.

وفي رواية قال: رواها من روى الطهارة والغسل والصلاة والأحكام، وذكر أشياء فإن يكونوا مع هذه عدولا وإلا فقد ارتفعت الأحكام وبطل الشرع فقال له: شفاك الله كما شفيتني أو كما قال.

وروى أيضا شيخ الإسلام ما ذكره أبو محمد عبد الرحمن ابن أبي حاتم في الرد على [ ص: 33 ] الجهمية، حدثنا علي بن الحسن السلمي، سمعت أبي يقول: حبس هشام بن عبيد الله وهو الرازي صاحب محمد ابن الحسن الشيباني رجلا في التجهم فتاب [ ص: 34 ] فجيء به إلى هشام ليمتحنه فقال: الحمد لله على التوبة أتشهد أن الله تعالى على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه ولا أدري ما بائن من خلقه، فقال: ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب.

التالي السابق


الخدمات العلمية