بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 58 ] وأول من أظهر في الإسلام التجهم، وهذا المذهب الذي نصره الرازي وأبو معشر ونحوهما هو الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري، وخطب الناس يوم النحر، فقال: ضحوا أيها الناس تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد ابن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولا كلم موسى تكليما؛ تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا! ثم نزل فذبحه.

[ ص: 59 ] فهذا أول الجهمية نفاة الصفات في هذه الأمة؛ هو مكذب بحقيقة ما خص الله به إمام الحنفاء المخلصين الذين يعبدون الله لا يشركون به شيئا وكليم الله الذي اصطفاه برسالاته وبكلامه، والله تعالى يفضل هذين الرسولين ويخصهما في مثل قوله تعالى: إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى [الأعلى 18-19] وقوله: أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى [النجم 36-37] وهما اللذان رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فوق الأنبياء كلهم في السماء السادسة والسابعة، فرأى أحدهما في السادسة ورأى الآخر في السابعة، وقد جاءت الأحاديث التي في الصحيح بعلو هذا وعلو هذا.

فإذا كان سلف الجهمية ومخاطبو الكواكب هم من أعظم المشركين المعادين لرسل الله تعالى الآمرين بعبادة الله تعالى [ ص: 60 ] وحده لا شريك له؛ كيف يصلح لهم أن يعيبوا أهل الإيمان بالله ورسوله الذين يقرون بتوحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، يقرون بتوحيد الله العلمي القولي كالتوحيد الذي ذكره في سورة: قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد [الإخلاص 1-3] قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين [الكافرون 1-6] كيف يصلح لأولئك الذين أشركوا وائتموا بالمشركين في نقيض التوحيد من هذين الوجهين فأمروا بعبادة غير الله ودعائه ورغبوا في ذلك وعظموا قدره وجهلوا من ينكر ذلك وينهى عنه، وأنكروا من أسماء الله تعالى وصفاته وحقيقة عبادته ما لا يتم الإيمان والتوحيد إلا به؛ كيف يصلح لهؤلاء أن يعيبوا أولئك باتباع المشركين ويجعلوا موافقيهم على هذا الكفر أعظم قدرا من أولئك المؤمنين الذين ليس لهم نصيب من قوله: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت إلى قوله نصيرا [النساء 51-52] [ ص: 61 ] فإن سبب نزول هذه الآية ما فعله كعب بن الأشرف رئيس اليهود من تقديمه لدين المشركين على دين المؤمنين لما كان بينه وبين المؤمنين من العداوة؛ فمن آمن بالجبت [ ص: 62 ] هو السحر، والطاغوت وهو ما عظم بالباطل من دون الله تعالى مثل رؤساء المشركين وله من علوم المسلمين ما له؛ ففيه شبه من الذين أوتوا نصيبا من الكتاب [النساء 51] الذين يؤمنون بالجبت والطاغوت [النساء 51]، وإذا كان هؤلاء يتعصبون لأولئك المشركين وينصرونهم ويذمون المؤمنين ويعيبونهم ألم يكن لهم نصيب من قوله تعالى: ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا [النساء 51] فيكون لهم نصيب من قوله تعالى: أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا [النساء 52] وتمام الكلام في قوله تعالى: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا [النساء 60-61] وهذه الآية مطابقة لحال هؤلاء كما بيناه في غير موضع .

[ ص: 63 ] الوجه الثاني: أن الاستدلال في توحيد الله تعالى الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه بمثل كلام أبي معشر المنجم ونقله عن الأمم المتقدمة يليق بمثل الرازي وذويه، أترى أبا معشر لو كان من علماء أهل الكتاب المسلمين كمن أسلم من الصحابة والتابعين ونقل لنا شيئا عن الأنبياء المتقدمين أكان يجوز لنا في الشريعة تصديق ذلك الخبر إذا لم نعلم صدقه من جهة أخرى إذا كان الناقل لنا إنما أخذه عن أهل الكتاب وفي الصحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه [ ص: 64 ] وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه. فكيف وأبو معشر الناقل لذلك وإنما خبرة الرجل بكلام الصابئة المشركين عباد [ ص: 65 ] الكواكب ونحوهم وهم من أقل الناس خبرة ومعرفة بالتوحيد الذي بعث الله به رسله وبحال أهله المؤمنين مع الكفار المشركين .

التالي السابق


الخدمات العلمية