بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الثاني أن الطائفة الأخرى تمنع المقدمة الثانية فيقولون لا نسلم أن العرش وحملته إذا كانوا حاملين لله لزم أن يكون الله محتاجا إليهم؛ فإن الله هو الذي يخلقهم ويخلق قواهم وأفعالهم فلا يحملونه إلا بقدرته ومعونته كما لا يفعلون شيئا [ ص: 240 ] من الأفعال إلا بذلك، فلا يحمل في الحقيقة نفسه إلا نفسه كما أنه سبحانه إذا دعاه عباده فأجابهم وهو سبحانه الذي خلقهم وخلق دعاءهم وأفعالهم فهو المجيب لما خلقه وأعان عليه من الأفعال، وكذلك إذا فرح بتوبة التائب من عباده أو غضب من معاصيهم وغير ذلك مما فيه إثبات نوع تحول عن أفعال عباده؛ فإن هذا يقوله كثير من أهل الكلام مع موافقة جمهور أهل الحديث وغيرهم فيه مقامان مشكلان أحدهما مسألة حلول الحوادث، والثانية تأثير المخلوق فيه. وجواب المسألة الأولى مذكور في غير هذا الموضع وجواب السؤال الثاني أنه لا خالق ولا بارئ ولا مصور ولا مدبر لأمر الأرض والسماء إلا هو، فلا حول ولا قوة إلا به، وكل ما في عباده من حول وقوة فبه هو سبحانه، فيعود الأمر إلى أنه هو المتصرف بنفسه سبحانه وتعالى الغني عما سواه.

وهؤلاء يقولون هذا الذي ذكرناه أكمل في صفة الغني [ ص: 241 ] عما سواه والقدرة على كل شيء مما يقوله النفاة، فإن أولئك يقولون لا يقدر أن يتصرف بنفسه ولا يقدر أن ينزل ولا يصعد ولا يأتي ولا يجيء ولا يقدر أن يخلق في عباده قوة يحملون بها عرشه الذي هو عليه، ويكونون إنما حملوه وهو فوق عرشه بقوته وقدرته من كونه لا يقدر على مثل ذلك ولا يمكنه أن يقيم نفسه إلا بنفسه كما أنه سبحانه إذا خلق الأسباب وخلق بها أمورا أخرى ودبر أمر السموات والأرض كان ذلك أكمل وأبلغ في الاقتدار من أن يخلق الشيء وحده بغير خلق قوة أخرى في غيره يخلقه بها، فإن من يقدر على خلق القوى في المخلوقات أبلغ ممن لا يقدر على ذلك؛ ولهذا كان خلقه للحيوان ولما فيه من القوى والإدراك والحركات من أعظم الآيات الدالة على قدرته وقوته، قال الله تعالى: إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [الذاريات 58].

قال عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على المريسي وصاحبه: وأعجب من هذا كله قياسك الله بقياس العرش ومقداره ووزنه من صغير أو كبير، وزعمت كالصبيان العميان إن كان الله أكبر من العرش أو أصغر منه أو مثله، فإن [ ص: 242 ] كان الله أصغر فقد صيرتم العرش أعظم منه وإن كان أكبر من العرش فقد ادعيتم فيه فضلا عن العرش، وإن كان مثله فإنه إذا ضم إلى العرش السموات والأرض كانت أكبر مع خرافات تكلم بها وترهات يلعب بها وضلالات يضل بها لو كان من يعمل لله لقطع قشرة لسانه، والخيبة لقوم هذا فقيههم والمنظور إليه مع هذا التمييز كله وهذا النظر وكل هذه الجهالات والضلالات.

فيقال لهذا البقباق النفاخ: إن الله أعظم من كل شيء وأكبر من كل خلق، ولم يحمله العرش عظما وقوة [ ص: 243 ] ولا حملة العرش حملوه بقوتهم ولا استقلوا بعرشه، ولكنهم حملوه بقدرته.

وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش وفوقه الجبار في عزته وبهائه ضعفوا عن حمله واستكانوا وجثوا على ركبهم حتى لقنوا لا حول ولا قوة إلا بالله، فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته، ولولا ذلك ما استقل به العرش ولا الحملة ولا السموات والأرض ولا من فيهن، ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته، فكيف على عرش عظيم أكبر من السموات والأرض؟! وكيف تنكر أيها النفاخ أن عرشه يقله والعرش أكبر من السموات السبع والأرضين السبع؟! ولو كان العرش في السموات والأرضين ما وسعته ولكنه فوق السماء السابعة.

فكيف تنكر هذا وأنت تزعم أن الله في الأرض في جميع أمكنتها والأرض دون العرش في العظمة والسعة؛ فكيف تقله الأرض في دعواك ويقله العرش الذي هو أعظم منها [ ص: 244 ] وأوسع وأدخل هذا القياس الذي أدخلت علينا في عظم العرش وصغره وكبره على نفسك وعلى أصحابك في الأرض وصغرها حتى تستدل على جهلك وتفطن لما تورد عليك حصائد لسانك فإنك لا تحتج بشيء إلا هو راجع عليك وآخذ بحلقك.

وقد حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح أنه قال: أول ما خلق الله حين كان عرشه على الماء حملة عرشه، فقالوا: ربنا لم خلقتنا؟ فقال: خلقتكم لحمل عرشي، قالوا: ربنا ومن يقوى على حمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك ووقارك؟ فقال لهم: إني خلقتكم لذلك، [ ص: 245 ] قال: قالوا: ربنا ومن يقوى على حمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك ووقارك؟ قال: فقال: خلقتكم لحمل عرشي، قال: فيقولون ذلك مرارا، قال: فقال لهم: قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله فيحملكم والعرش قوة الله.

[ ص: 246 ] قال: أفلا تدري أيها المعارض أن حملة العرش لم يحملوا العرش ومن عليه بقوتهم وبشدة أسرهم إلا بقوة الله وتأييده.

وقال في كتابه: حدثني محمد بن بشار بندار، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي [ ص: 247 ] قال: سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن [ ص: 248 ] عتبة عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، [ ص: 249 ] عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله فوق عرشه فوق سمواته فوق أرضه مثل القبة، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده مثل القبة، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب [ ص: 250 ] [ ص: 251 ] [ ص: 252 ] وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في كتاب الرد على [ ص: 253 ] الجهمية عن عدة مشايخ منهم ابن بشار، قال فيه عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال ونهكت الأموال وهلكت الأنعام؛ فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله، إن عرشه على سمواته هكذا، وقال بأصابعه مثل القبة عليه، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب،قال ابن بشار في حديثه: إن الله فوق عرشه، [ ص: 254 ] وعرشه فوق سمواته.. وساق الحديث، وقوله في الحديث بأن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه؛ أي الله هو الذي يفعل لا يشفع إلى غيره في أن يفعل، وهذا كما يقوله بعض الشعراء مخاطبا للنبي صلى الله عليه وسلم:

شفيعي إليك الله لا شيء غيره

وهذا الحديث قد يطعن فيه بعض المشتغلين بالحديث انتصارا للجهمية، وإن كان لا يفقه حقيقة قولهم وما فيه من التعطيل أو استبشاعا لما فيه من ذكر الأطيط كما فعل أبو القاسم المؤرخ، ويحتجون بأنه تفرد به محمد بن إسحاق [ ص: 255 ] عن يعقوب بن عتبة عن جبير، ثم يقول بعضهم: ولم يقل ابن إسحاق: حدثني.

فيحتمل أن يكون منقطعا وبعضهم يتعلل بكلام بعضهم في ابن إسحاق مع أن هذا الحديث وأمثاله وفيما يشبهه في اللفظ والمعنى لم يزل متداولا بين أهل العلم خالفا عن سالف، ولم يزل سلف الأمة وأئمتها يروون ذلك رواية مصدق به راد به على من خالفه من الجهمية متلقين لذلك بالقبول، حتى قد رواه الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه في التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بأحاديث الثقات [ ص: 256 ] المتصلة الإسناد. رواه عن بندار كما رواه الدارمي وأبو داود سواء، وكذلك رواه عن أبي موسى محمد بن المثنى بهذا الإسناد مثله سواء، فقال: حدثنا محمد بن بشار، ثنا وهب - يعني ابن جرير -، ثنا أبي، سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة وعن جبير بن محمد [ ص: 257 ] ابن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس وجاعت العيال ونهكت الأموال وهلكت الأنعام؛ فاستسق لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك! أتدري ما تقول؟! فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من جميع خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟! إن الله على عرشه، وعرشه على سمواته، وسمواته على أرضه هكذا، وقال بأصابعه مثل القبة، وأنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب، قال ابن خزيمة: قرئ على أبو موسى وأنا أسمع أن وهبا حدثهم بهذا الإسناد مثله سواء.

التالي السابق


الخدمات العلمية