بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
فهؤلاء السمنية يكون قولهم إن ما لا يدرك بالحواس لا يكون له حقيقة، ثم الرجل قد يعلم ذلك بحواسه وقد يعلم ذلك بإخبار من علم ذلك بحواسه، ويدل على ذلك أن هؤلاء قوم موجودون؛ فالرجل منهم لابد أن يقر بوجود أبويه وجده وولادته وحوادث بلده الموجودة قبله وما يحتاج إليه من أخبار الناس والبلاد، وهذه الأمور كلها لا يعلمها أحدهم إلا بالخبر؛ فإنه لا يدرك بحسه ولادته وإحبال أبيه لأمه ونحو ذلك، لكن المخبرون يعلمونها بالإحساس، ولا يتصور أن يعيش في العالم أمة يكذبون بكل ما لا يحسونه بل هذا يلزم أن بعضهم لا يزال غير مصدق لبعض في معاملاتهم واجتماعاتهم، والإنسان [ ص: 453 ] مدني بالطبع لا يعيش إلا مع بني جنسه، ومن لم يقر إلا بما أحسه لم يمكنه الاستعانة ببني جنسه في عامة مصالحه.

وإذا كان مقصودهم أن ما لا يحس به لم يكن موجودا كان من الجواب السديد لهم أن يقال لهم: إلهي سبحانه يمكن إحساسه فتمكن رؤيته وسماع كلامه، وقد كلم في الدنيا بعض خلقه وسوف يكلم عباده ويرونه في الدار الآخرة، فإن كانوا ينكرون العلم والإقرار بكل ما لا يحسه الإنسان أمكنه أن يقرر عليهم العلم بالخبريات [ ص: 454 ] والمجربات والبديهيات وغير ذلك، وإن كانوا يقولون إن كل موجود فلابد أن يمكن إحساسه، فهذا الذي قالوه هو مذهب الصفاتية كلهم الذين يقرون بأن الله يرى في الدار الآخرة، وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها لكنه هنا ضل فظن أن الله لا يمكن إحساسه ولا رؤيته، واحتاج حينئذ إلى إثبات موجود لا يمكن إحساسه، فزعم أن روح بني آدم كذلك لا يمكن إحساسها بشيء من الحواس، وقاس وجود الله على وجود الروح من هذا الوجه.

وهذه هي الطريقة التي سلكها هذا المؤسس في أول تأسيسه حيث أثبت وجود ما لا يكون داخل العالم وخارجه بما قال من قال من الفلاسفة وموافقيهم من المسلمين إن الروح الذي في بني آدم لا داخل العالم وخارجه ولا يمكن إحساسها، فقول جهم هو قول هؤلاء، كما قال تعالى: [ ص: 455 ] وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك، قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم [البقرة 118] .

وقال تعالى: ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون [الذاريات 50-53] .

وقال تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا [الأنعام 112].

قال الإمام أحمد: وجد الجهم ثلاث آيات من القرآن من المتشابه قوله: ليس كمثله شيء [الشورى 11] وهو الله في السماوات وفي الأرض [الأنعام 3] لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار [الأنعام 103] فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرا وكان من المشبهة، فأضل بكلامه بشرا كثيرا واتبعه على قوله [ ص: 456 ] رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة، ووضع دين الجهمية فإذا سألهم الناس عن قول الله ليس كمثله شيء [الشورى 11] يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان ولم يتكلم ولا يكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يوصف ولا يعرف بصفة ولا بفعل، ولا له غاية ولا منتهى ولا يدرك بعقل، وهو وجه كله وهو علم كله وهو سمع كله وهو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله، لا يوصف بوصفين مختلفين وفي نسخة لا يكون شيئين مختلفين، وليس له أعلى ولا أسفل ولا نواح ولا جوانب ولا يمين ولا شمال، ولا هو ثقيل ولا خفيف ولا له لون، [ ص: 457 ] وفي نسخة: ولا له نور ولا له جسم، ليس هو معلوم أو معقول، وكلما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه.

فقلنا: هو شيء، فقالوا: هو شيء لا كالأشياء، فقلنا: إن الشيء الذي يكون لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء؛ فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئا أو قال: لا يأتون بشيء ولكن يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية.

التالي السابق


الخدمات العلمية