بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 135 ] الوجه السادس: أن يقال: هب أنه يلزم أن يكون فيه أجزاء وأبعاض، بمعنى أن فيه ما يميز منه شيء عن شيء، كما أن الفلك يتميز منه شيء من شيء وجانب من جانب، وهذا هو المعني بالتركيب من الأجزاء. فهذا يكون بمنزلة الصفات القائمة من العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر وسائر الصفات.

فقولك في تلك الأمور التي سميتها أجزاء: " إما أن تكون متماثلة أو مختلفة" فيقال لك مثله في الصفات التي سمتها نفاة الصفات كابن سينا وغيره أجزاء، ويقولون: واجب الوجود ليس فيه أجزاء لا أجزاء حد، ولا أجزاء كم. وإن كانت [ ص: 136 ] هذه تسمية باطلة كما قد قررناه في غير هذا الموضع، فتسميته أيضا تشبهها كما قد قررناه، والنزاع هنا ليس في اللفظ بل في المعنى.

فيقال لك في تلك الصفات: إن كانت متماثلة وجب أن تقوم كل صفة مقام الأخرى: فيقوم العلم مقام القدرة والحياة مقام الكلام وهذا باطل. وإن كانت مختلفة فكل صفة تشارك الأخرى في كونها صفة وتفارقها في خصوصيتها، وما به الاشتراك غير ما به الافتراق، فتكون كل صفة مركبة من جزأين جزء به الاشتراك وجزء به الامتياز، ثم كل واحد من ذينك الجزأين يشارك غيره في جزء ويفارقه في جزء، وهلم جرا. فالقول في تركب كل مركب من جزأين وتركب كل جزء من جزأين يعم ما يقال: إنه مركب تركيب المقدار والكم وما هو مركب تركيب الصفة والكيفية: فإن أوجب أحد التركيبين [ ص: 137 ] الانحلال إلى ما لا تركيب فيه أوجبه الآخر، وإلا فلا.

وحينئذ فيعارض ما ذكرته في تركيب المقدار مثله سواء: فيقال لك: إن لم يوجب التركيب الانحلال إلى ما لا تركب فيه لم يجب ذلك في الموضعين، فبطلت الحجة، وإن أوجب ذلك بانحلال المقدار إلى جزء لا تركب فيه، فانحلال الصفة إلى جزء هو صفة لا تركب فيها.

وإذا قيل في أجزاء المقدار إنها متماثلة وإلا كانت مركبة قيل في أجزاء الكيفية: إنها متماثلة، وإلا كانت مركبة. وإذا قيل إن تماثلها يوجب أن يجوز على كل واحد ما يجوز على الآخر. قيل: إن تماثل تلك يوجب أن يجوز على كل واحد ما يجوز على الآخر، وحينئذ فيجب أن يوصف العلم بما توصف به القدرة، وتوصف الحياة بما يوصف به الكلام، ويسد كل منهما مسد الآخر، وهذا مع أنه محال فذلك يستلزم جواز الاكتفاء بصفة عن سائر الصفات، وذلك يستلزم عدم وجوب هذه الصفات للذات، وهذا أبلغ مما ألزمه في المقدار من جواز انحلال الذات وتفرقها، فإن عدم كيفيات الموجود أو الجسم أبلغ في عدمه [ ص: 138 ] وتلاشيه من تفرق أجزائه، ولهذا كثير من الأجسام يفترق ثم يجتمع كما يتفرق الماء ثم يجتمع، وأما إذا بطلت كيفيته مثل بطلان المائية والنارية، فإنه يكون فاسدا مستحيلا.

وهذا وإن كان إلزاما لمن يثبت الصفات فهو لازم لكل أحد أيضا، فإنه لا بد من إثبات وجود ووجوب ونحو ذلك، أي معنى أثبت جعل فيه نظير هذا التركيب. وهذا لازم لابن سينا ونحوه من الملاحدة أيضا، فإنه يقال: في الوجود والوجوب: إن الموجود يشارك غيره من الموجودات في مسمى الوجود ويفارقها في خصوصه، والوجوب بالذات يشارك الوجوب بالغير في مسمى الوجوب ويفارقه في كونه بالذات. وكذلك يقال في العاقل والمعقول والعقل، والعناية، وكونه فاعلا، أو مبدأ أو [ ص: 139 ] علة أو غير ذلك، إذ لا بد لكل من أثبت موجودا من أن يثبت وجودا واجبا، ويلزمه فيه هذه اللوازم. وقد بينا هذا فيما تقدم.

التالي السابق


الخدمات العلمية