بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
السؤال الرابع: سلمنا أنه لا يمكن تعليل هذا الحكم بخصوص كونه جوهرا ولا بخصوص كونه عرضا. فلم قلتم: إنه لا بد من تعليله إما بالحدوث وإما بالوجود؟ وما الدليل على هذا الحصر؟ أقصى ما في الباب أن يقال: سبرنا وبحثنا فلم نجد قسما آخر إلا أنا بينا في الكتب المطولة أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، وشرحنا أن هذا السؤال هادم لكل دليل مبني على تقسيمات منتشرة غير محصورة بين النفي والإثبات.

[ ص: 257 ] السؤال الخامس: سلمنا أن عدم الوجدان يدل على عدم الوجود، لكن لا نسلم قولكم: أنا ما وجدنا لهذا الحكم علة سوى الحدوث والوجود. بيانه من وجهين:

أحدهما: أن من المحتمل أن يقال: المقتضي لقولنا: إن الشيء إما أن يكون محايثا للعالم أو مباينا عنه هو كونه بحيث تصح الإشارة الحسية إليه، وذلك لأن كل شيئين تصح الإشارة الحسية إليهما. فإما أن تكون الإشارة إلى أحدهما عين الإشارة إلى الآخر، وذلك كما في اللون والمتلون، وهذا هو المحايثة. وإما أن تكون الإشارة إلى أحدهما غير الإشارة إلى الآخر، وهذا هو المباينة بالجهة، فثبت أن المقتضي لقبول هذه القسمة هو كون الشيء مشارا إليه بحسب الحس، وعلى هذا التقدير ما لم يقيموا الدلالة على أنه تعالى مشار إليه بحسب الحس لا يمكن أن يقال: إنه يجب أن يكون محايثا للعالم أو مباينا عنه بالجهة. لكن كونه تعالى مشارا إليه بحسب الحس وهو مما وقع النزاع فيه، وحينئذ يتوقف صحة الدليل على صحة [ ص: 258 ] المطلوب، وذلك يفضي إلى الدور وهو باطل.

الثاني: لا شك أن ما سوى الله تعالى إما أن يكون محايثا لغيره أو مباينا عن غيره بالجهة، ولا شك أن الله تعالى مخالف لهذين القسمين بحقيقته المخصوصة، إذ لو لم يكن مخالفا لهما بحقيقته المخصوصة لكان مثلا للجواهر والأعراض، ويلزم منه كونه تعالى محدثا كما أن الأعراض والجواهر محدثة، وذلك محال، وإذا ثبت هذا فنقول: إن الجواهر والأعراض يشتركان في الأمر الذي وقعت به المخالفة [ ص: 259 ] بينهما وبين ذات الباري، فلم لا يجوز أن يكون المقتضي لقبول الانقسام إلى المحايث وإلى المباين هو ذلك الأمر، وعلى هذا التقدير سقط هذا السؤال لأنه لا مشترك بين الجواهر والأعراض إلا الحدوث.

التالي السابق


الخدمات العلمية