بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
ثم قالوا: ليس ذات الرسول صلى الله عليه وسلم بحجة، وقالوا: ما هو بعدما مات بمبلغ فلا يلزم به الحجة فسقط من أقاويلهم [ ص: 414 ] على ثلاثة أشياء: أنه ليس في السماء رب، ولا في الروضة رسول، ولا في الأرض كتاب. كما سمعت يحيى بن عمار يحكم به عليهم، وإن كانوا يموهونها ووروا عنها واستوحشوا من تصريحها. فإن حقائقها لازمة لهم، وأبطلوا التقليد، فكفروا آباءهم وأمهاتهم وأزواجهم وعوام المسلمين، وأوجبوا النظر في الكلام، واضطروا إليه الدين بزعمهم، فكفروا السلف.

وقالت طائفة منهم: الفرض لا يتكرر فأبطلت الشرائع [ ص: 415 ] وسموا الإثبات تشبيها فعابوا القرآن وضللوا الرسول، فلا تكاد ترى منهم رجلا ورعا، ولا للشريعة معظما، ولا للقرآن محترما، ولا للحديث موقرا، وسلبوا التقوى ورقة القلب وبركة التعبد ووقار الخشوع، واستفضلوا الرسول. فانظر، فلا هو طالب آثاره، ولا تتبع أخباره، ولا يناضل عن سننه، ولا هو راغب في أسوته، يتقلب بمرتبة العلم وما عرف حديثا واحدا، تراه يهزأ بالدين ويضرب له الأمثال، ويتلعب بأهل السنة، ويخرجهم أصلا من العلم، لا تنفر لهم عن بطانة إلا خانتك ولا عن عقيدة إلا رابتك، وألبسوا ظلمة الهوى، وسلبوا هبة الهدى، فتنبو عنهم الأعين، وتشمئز منهم القلوب.

قال: وقد شاع في المسلمين أن رأسهم علي بن إسماعيل الأشعري كان لا يستنجي ولا يتوضأ ولا يصلي، وقد سمعت محمدا العمري النسابة أبا المعالي [ ص: 416 ] يقول: سمعت أبا الفضل الحارثي القاضي بسرخس يقول: سمعت زاهر بن أحمد يقول: أشهد لما مات أبو الحسن الأشعري متحيرا بسبب مسألة تكافؤ الأدلة، فلا جزى الله امرءا أناط مخاريقه بمذهب الإمام المطلبي رحمه الله تعالى، وكان من أبر خلق الله قلبا، وأصونهم سمتا، وأهداهم هديا، وأعمقهم علما، وأقلهم تعمقا، وأوقرهم للدين، وأبعدهم من التنطع، وأنصحهم لخلق الله، جزاه خيرا.

قال: فرأيت قوما منهم يجتهدون في قراءة القرآن وحفظ حروفه والإكثار من ختمه ثم اعتقاده فيه ما قد بيناه، اجتهاد روغان كالخوارج. وذكر بإسناده من حديث سفيان الثوري [ ص: 417 ] عن الصلت بن بهرام، عن المنذر بن هوذة عن خرشة ابن الحر أن حذيفة بن اليمان قال: " إنا آمنا ولم نقرأ وسيجيء قوم يقرؤون القرآن، ولا يؤمنون".

وبإسناده من حديث زيد بن أبي أنيسة عن القاسم بن [ ص: 418 ] عوف قال: سمعت ابن عمر يقول: لقد عشنا برهة من دهرنا، وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن.

وبإسناده من حديث إسماعيل بن مهاجر، عن أبيه، عن ابن عمر قال: إنا كنا صدور هذه الأمة، وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحيهم ما يقيم إلا سورة من القرآن أو شبه ذلك، وكان القرآن قد ثقل عليهم رزقوا علما به وعملا [ ص: 419 ] وأن آخر هذه الأمة يخفف عليهم القرآن حتى يقرأه الصبي والعجمي لا يعلمون شيئا منه".

قلت: ومثل ذلك معروف عن جندب بن عبد الله البجلي أنه قال: أوتينا الإيمان قبل أن نقرأ القرآن، ثم أوتينا القرآن فازددنا إيمانا، وإنكم تأتون القرآن قبل الإيمان فتوسل أحدكم.

[ ص: 420 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية