بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 260 ] «فصل، وقد وصف البارئ نفسه في القرآن باليدين، بقوله تعالى: لما خلقت بيدي [ص: 75] وقال تعالى: وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء [المائدة: 64] قال: «وهذه الآية تقتضي إثبات صفتين ذاتيتين تسميان يدين». قال: «وذهبت المعتزلة وطائفة من الأشعرية إلى أن المراد باليدين النعمتين، وذهبت طائفة منهم إلى أن المراد باليدين هاهنا القدرة». قال: «والدلالة على كونهما صفتين ذاتيتين، تزيدان على النعمة وعلى القدرة، أنا نقول: القرآن نزل بلغة العرب، واليد المطلقة في لغة العرب وفي معارفهم وعاداتهم، المراد بها إثبات صفة ذاتية للموصوف، لها خصائص فيما يقصد به، وهي حقيقة في ذلك، كما ثبت في معارفهم الصفة التي هي القدرة، والصفة التي هي العلم، كذلك سائر الصفات من الوجه والسمع والبصر والحياة وغير ذلك، وهذا هو الأصل في هذه الصفة، وأنهم لا ينتقلون عن هذه الحقيقة إلى غيرها، مما يقال على سبيل المجاز إلا بقرينة تدل على ذلك، فأما مع الإطلاق فلا، ولهذا يقولون: لفلان عندي يد. فيراد بذلك ما يصل من الإحسان بواسطة اليد، وإنما فهم ذلك بإضافة اليد إلى قوله «عندي» ويقول ذلك وبينهما من [ ص: 261 ] البعد والحوائل، ما لو أراد اليد الحقيقية لكان كاذبا؛ ولهذا لو كان بحيث أن يكون عنده يده الحقيقية، وهو أن يكونا متماسكين في الاجتماع ويحيط بهما ثوب، أو على صفة يمكن إدخال يده إلى باطن ثوبه، فقال حينئذ: لفلان عندي يد. لا يصرف القول فيه غير إلى اليد الحقيقية؛ لأن شاهد الحال قد قطع عمل القرينة. والإطلاق في التعارف، أكثر من شاهد الحال في القرب، من جهة أنه يجوز أن يتجوز به للقرينة، لكن على من شاهد الحال لاغية عليه، بما لإطلاقه ذلك أحق وأولى. وكذلك القول في التعبير باليد عن القدرة، إنما يثبت ذلك بقرينة، وهو أن يقول: لفلان علي يد. فقوله: «علي» قرينة تدل على أن المراد باليد القدرة، وهي أيضا مع شاهد الحال لاغية على ما قدمنا في النعمة، وهذا جلي واضح.

ودليل آخر، وهو أنا إذا تأملنا المراد بقوله تعالى: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ص: 75] امتنع فيه أن يكون المراد به النعمة والقدرة، وذلك أن الله تعالى أراد تفضيل آدم على إبليس، حيث افتخر عليه إبليس بجنسه، الذي هو النار، وأنه بذلك أعلى من التراب والطين، فرد الله عليه افتخاره، وأثبت لآدم من المزية [ ص: 262 ] والاختصاص ما لم يثبت مثله لإبليس، بقوله تعالى: لما خلقت بيدي [ص: 75] وفي ذلك ما يدل على أن المراد فيها الصفة التي ذكرنا من وجهين:

أحدهما: أن إبليس عند الخصم، خلق بما خلق به آدم، من القدرة والنعمة، فلولا أن آدم خالف إبليس في ذلك، لما كان فيه إثبات فضيلة، وهذا كلام صدر على سبيل الحاجة في إثبات الفضل، فلو تساويا في السبب لما ثبت الحجة لله تعالى على إبليس في ذلك، وذلك مما لا يخفى عليه، فكان يسعه أن يقول: وأنا فقد خلقتني بما خلقت به آدم، فأي فضيلة له علي بما ذكرته، وما يؤدي إلى تعجيز الله عن حجته، وإزالة المميز بين الشيئين، فيما قصد التمييز به، بالمخالفة بينهما، قول باطل ومحال.

والثاني: أنه أضاف الخلق وهو فعل يده سبحانه، والفعل متى أضيف إلى اليد، فإنه لا يقتضي إضافة إلا إلى ما يختص بالفعل، وليس إلا اليد التي ذكرنا، وهذا جلي واضح.

التالي السابق


الخدمات العلمية