بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 557 ] الوجه العشرون: أن كون الرب إلها معبودا يستلزم أن يكون بجهة من عابده بالضرورة، وذلك أن العبادة تتضمن قصد المعبود وإرادته وتوجه القلب إليه، وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه في جميع مراداته ومقصوداته ومطلوباته ومحبوباته التي قصدها وأحبها وطلبها دون قصده وحبه وطلبه للآلهة، كما قال تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله [البقرة: 165].

والإنسان يحس من نفسه أنه إذا قصد شيئا أو أحبه غير نفسه فلا بد وأن يكون بجهة منه، وأنه إذا قيل له اقصد أو اطلب أو اعبد أو أحب من لا يكون بجهة منك ولا هو فيك ولا فوقك ولا تحتك ولا أمامك ولا وراءك ولا عن يمينك ولا عن شمالك، كان هذا أمرا بالممتنع لذاته ليس هو أمرا بممكن لا يطيقه، والممتنع لذاته يمتنع الأمر الشرعي به باتفاق المسلمين، ويكون حقيقة الأمر اعبد من يمتنع أن يعبد، واقصد من يمتنع أن يقصد، وادع من يمتنع أن يدعى، ووجه وجهك إلى من يمتنع التوجه إليه، وهذا أمر بالجمع بين النقيضين.

[ ص: 558 ] وقد ذكرنا نظير هذا غير مرة وبينا أن قول الجهمية يستلزم الجمع بين النقيضين وأن يكون موجودا معدوما معبودا غير معبود مأمورا بعبادته منهيا عنها، فحقيقته أمر بعبادة العدم المحض والنفي الصرف وترك عبادة الله سبحانه، وهذا رأس الكفر وأصله، وهو لازم لهم لزوما لا محيد عنه، وإذا كان فيه إيمان لا يقصد ذلك لكن الذي ابتدع هذا النفي ابتداء وهو عالم بلوازمه كان من أعظم المنافقين الزنادقة المعطلين للصانع ولعبادته ودعائه.

ولهذا تجد هذا السلب إنما يقع كثيرا من متكلمي الجهمية الذين ليس فيهم عبادة لله ولا إنابة إليه وتوجه إليه، وإن صلوا صلوا بقلوب غافلة وإن دعوه دعوه بقلوب لاهية لا تحقق قصد المعبود المدعو، فإنها متى صدقت في العبادة والدعاء اضطرت إلى قصد موجود يكون بجهة منها فتنتقل حينئذ إلى حال عباد الجهمية فتجعله في كل مكان أو الوجود المطلق، ويتوجه بقلبه إلى الجهات الست، فبينما هو كان في نفيه عن الجهات الست صار مثبتا له في الجهات الست، وهذا حال [ ص: 559 ] الجهمية دائما، يترددون بين هذا النفي العام المطلق وهذا الإثبات العام المطلق، وهم في كليهما حائرون ضالون لا يعرفون الرب الذي أمروا بعبادته.

وكل من جرب نفسه وامتحنها من المؤمنين علم من نفسه علما يقينيا ضروريا يجده من نفسه كما يجد حبه وبغضه ورضاه وغضبه وفرحه وحزنه، أنه متى صدق في عبادة الله ودعائه والتوجه إليه بقلبه لزم أن يقصده بجهة منه، فإن كان على فطرته التي فطر عليها أو ممن هو مع ذلك مؤمن بما جاءت به الرسل قصد الجهة العالية، وإن كان ممن غيرت فطرته قصد الجهات كلها وقصد كل موجود، فلهذا قال الشيخ أبو جعفر الهمذاني لأبي المعالي: " ما قال عارف قط: يا ألله! إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب الجهة العالية لا تلتفت يمنة ولا يسرة".

فتبين أن قوله: إياك نعبد وإياك نستعين بل وقوله: اهدنا الصراط المستقيم لا يصدق في قول ذلك إلا من يقر أن الله فوقه، ومن لم يقر بذلك يكون فيه نفاق، عنده قصد بلا مقصود وعبادة بلا معبود حقيقي، وإن كان مثبتا له من بعض الوجوه لكن قلبه لا يكون مطمئنا إلى إله يعبده.

يوضح ذلك أن عبادة القلب وقصده وتوجهه حركة منه، [ ص: 560 ] وحركة الإنسان، بل كل جسم لا يكون إلا في جهة وإلى جهة، إذ الحركة مستلزمة للجهة. وتقدير متحرك بلا جهة كتقدير حركة بلا متحرك، وهذا مما لا نزاع فيه بين العقلاء، لكن غلاة المتفلسفة قد يزعمون أن القلب والروح ليسا جسما، وأنه لا داخل البدن ولا خارجه ولا داخل العالم ولا خارجه، وهذا معلوم فساده بالحس والعقل والسمع كما قد بيناه في غير هذا الموضع. وغلاة المتكلمين يزعمون أن الروح إنما هو عرض من أعراض البدن ليست شيئا يفارق البدن ويقوم بنفسه، وهذا أيضا فاسد في الشرع والعقل كما بيناه في غير هذا الموضع. وإذا عرف فساد القولين علم أن الروح التي فينا جسم يتحرك، ثم نقول: القلب الذي هو مضغة يحس الإنسان من نفسه بصعوده وارتفاعه إلى فوق عند اضطراره إلى الله تعالى.

التالي السابق


الخدمات العلمية