بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه السادس والعشرون: أن يقال: هذا قد أخبر عن بني آدم الأولين والآخرين الذين يدعون الله برفع أيديهم إليه وتوجه قلوبهم إلى جهته العالية، أنهم مثلوه بما شاهدوه من الأحياء العالمين القادرين، كما يمثل أحدهم ما لم يره من هذا الجنس بما رآه. ومن المعلوم أن هذا الضلال الذي ذكره عن بني آدم هو الضال فيه في الأصل المشبه به والفرع الذي قاسه عليه، وذلك أن قوله كما أن من لم يشاهد إنسانا إلا أسود فحين يمثل في نفسه إنسانا يخاطبه إنما يسبق إلى نفسه أنه أسود لا غير.

يقال له: هذا على قسمين: أحدهما: أن لا يعلم وجود إنسان إلا أسود.

والثاني: أن يكون، وإن لم يشاهد الأسود قد علم بالخبر [ ص: 608 ] أو غيره أن في الأناسي من هو أبيض، وكذلك إذ مثل إنسانا يخاطبه قد مثل إنسانا مطلقا لا يقدره من أحد الصنفين، وقد يمثل مخاطبة إنسان من الصنف الأبيض، أو يخاطبه إنسان من الصنف الأسود.

فيقال له: هذا المثل الذي ضربته إنما يسلم لك فيمن لا يعلم وجود إنسان غير أبيض، فإنه إذا مثل مخاطبة إنسان إنما يكون مثله بمبلغ علمه، فإذا لم يكن عالما بوجود أبيض لم يتمثل مخاطبة أبيض، بل قد يتمثل مخاطبة إنسان مطلق، ولا يخطر بقلبه لونه، وقد يخطر بقلبه لونه، فلا يكون إلا ما علمه من ألوان الناس، وهو السواد، أما إذا علم وجود البيض من الناس ومثل في نفسه أنه يخاطبهم، وإن كان لم يرهم بعد كما لو قيل لملك السودان: قد قدم عليك رسل البيض وهم بيض، فهنا إذا زور في نفسه ما يخاطبه به لم يمثل أنه يخاطب أسود، وكذلك لو علم وجود الصنفين وقدر مخاطبة إنسان مطلق لم يتمثل لونه، بل قد يصنف الكتب، ويقف الوقوف، وقد يكتب ذلك بالعربية، وقد لا يكون رأى غير البيض، ومع هذه فلا يتمثل حين المخاطبة المطلقة لون المخاطبين، ولهذا يندرج في خطابه البيض والسود، واللفظ يطابق المعنى، وهو ما عناه وقصده. فكلامه، ولو لم يقصد إلا البيض مثلا، لم يتناول لفظه [ ص: 609 ] لغيرهم، وليس الأمر كذلك بإجماع الناس.

وأما التمثيل باللغة فليس هو من أمثلة هذه المسألة، وذلك أن من لم يسمع غير العربية لا يقدر أن يتكلم بغيرها، ولا يتمثل في عبارات نفسه لغة غيرها، فلا يكون التعبير بغير العربية متمثلا في نفسه لا سابقا ولا لاحقا، ولو علم أن للناس لغة غير العربية أو سمعها ولم يحفظها لم يقدر بذلك على التعبير بها، ولا على تمثيلها، فاللغات بمنزلة ما يعلمه الإنسان من الصناعات والأعمال كالخياطة والنجارة والحراثة، إذا لم يكن يحسنها الإنسان إلا على صفة لم يتمثل في نفسه إذا رآها أن يعملها إلا الصفة التي يحسنها، فأين ما يقدره الإنسان ويصوره في نفسه من مراده ومقصوده الذي يفعله بقدرته من الألفاظ والحركات من الأمور الخارجة عن قدرته وإرادته؟ فعلم أن هذا ليس من هذا الباب. وأما الأول فإنه يشبهه، لكن الحكم المذكور فيه ليس على إطلاقه، وإنما هو في حق من لا يعلم وجود إنسان إلا أسود. ويقصد خطاب أسود. وإذا كان الأمر كذلك ظهر فساد ما ذكره من المثالين.

التالي السابق


الخدمات العلمية