بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 95 ] وأما المشاهدة فإن أحدهم يشهد بباطنه الوجود المطلق الساري في الكون كله، الذي لا يختص بشيء دون شيء، وهذا شهود صحيح؛ لكن ضلوا في ظنهم أن ذلك هو الله رب العالمين، وأن ما وراء السموات والأرض شيء آخر، حيث يقولون: ما فوق العرش رب، ولا فوق العالم إله.

ويقول أحدهم: لو زالت السموات والأرض زالت حقيقة الله فكانوا في هذا الشهود والذوق والوجود، كما ذكرته لمن خاطبته من أهل المعرفة والتحقيق في بيان الشبهة التي ضل بها هؤلاء مع كثرة ما فيهم من العبادة والصدق في ذلك العلم والفضيلة.

فقلت: هم بمنزلة من شاهد شعاع الشمس، فظن أن ذلك هو الشمس، وليس وراء الشعاع شيء آخر أصلا، وجحد أن [ ص: 96 ] يكون في الوجود شمس غير ما شهده من الشعاع، وهذا مثل بعيد، وإلا فالله سبحانه وتعالى أجل وأعلى وأعظم وأكبر من جميع المخلوقات أن يكون نسبته إليها كنسبة الشمس إلى شعاعها؛ ولكن هذا كما تقدم من باب قياس الأولى؛ فإنه إذا كان من شهد شعاع الشمس ووجده، فظن أنها عين الشمس وحقيقتها من أعظم الجاهلين الضالين، فالذي شهد وجود المخلوقات فاعتقد أن عين وجود رب العالمين هو الأرض والسموات: أعظم جهلا وضلالا.

وهؤلاء لم يكن ضلالهم فيما علموه وشهدوه من وجود المخلوقات؛ ولكن في نفي ما لم يشهدوه، وأنكروه من وجود رب السموات، ثم ضلوا فظنوا وجود المخلوق هو وجود خالق الكائنات، فوافقوا فرعون في ذلك النفي، وامتازوا عنه بهذا الإثبات، وهذا حال عامة الكفار وأهل البدع، إنما ضلالهم في التكذيب بما لم يعرفوه من الحق، لا بما علموه من الحق؛ لكن يضمون إلى ذلك التكذيب ظنونا كاذبة، تنشأ عن الهوى، يصدقون لأجلها بالباطل.

وذكر الأئمة في الرد على الجهمية ما علمه المسلمون بضرورة حسهم وعقلهم ودينهم من تنزيهه عن أن يكون في أجوافهم وأحشائهم أيضا، مع ما ذكروه من تنزهه عن الأنجاس؛ [ ص: 97 ] لأن ذلك أقرب إلى حس الإنسان وبديهة عقله، فكلما كان المعلوم مما يحسه الإنسان، ويعقله بديهة كان أعلم به، لا سيما مع تكرر إحساسه به وعقله له.

وأيضا فنبهوا بذلك على ما ذكره الله تعالى من كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم، وأن الله تعالى حل في بطن مريم؛ فإن هذا تكفير لكل من قال في بشر إنه الله. بطريق الأولى. فمن قال في الوجود كله ذلك أكفر وأكفر؛ ولهذا اجتمع جماعة عظيمة بدمشق في سماع، فأنشد فيه القوال شعرا لابن إسرائيل وكان شاعرا من شعراء الفقراء؛ في شعره إيمان وكفر، وهدى وضلال، وفي شعره كثير من كلام الاتحادية؛ لكن التلمساني وابن الفارض أحذق في الاتحاد منه، فأنشد القوال له:


وما أنت غير الكون بل أنت عينه ويفهم هذا السر من هو ذايق



وكان هناك شيخ يعرف بالشيخ نجم الدين بن الحكيم صحب الشيخ إسماعيل الكوراني فأنكر ذلك، وتلا قوله تعالى:

[ ص: 98 ] لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم [المائدة: 72]. والتفت إلى القوال وقال له: قل:


وما أنت عين الكون بل أنت غيره     ويشهد هذا الأمر من هو صادق



وهي واقعة مشهورة، حدثني بها غير واحد ممن شهدها، ولقد أحسن هذا الشيخ التالي لهذه الآية في الرد على هذا الشعر، الذي هو من أقوال الملاحدة والاتحادية.

وأيضا نبهوا بذلك / على ضلال من يقول: إنه الله، أو أن الله فيه من أهل الاتحاد والحلول الخاص؛ فإن المسلمين يعلمون بضرورة حسهم وعقلهم أن الله ليس في أجوافهم ولا أحشائهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية